هل تدخل «صحاف الملوك» لائحة التراث العالمي؟

«خزف ليموغ» الفرنسي استعد للمعركة التي تجري في جزيرة بالي قريبا

الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أثناء زيارته لمصنع خزف بليموج عام 2008 (إ.ب.أ)
TT

طلبت فرنسا إدراج الخزف الرفيع المعروف باسم بلور ليموج، نسبة إلى المدينة الواقعة وسط البلاد، إلى لائحة التراث غير المادي للبشرية، وفق ما أعلنه مصدر في اليونيسكو، المنظمة الدولية التي تعنى بالتربية والعلوم والثقافة. ورغم أن المحاولة ليست جديدة فإن بلدية المدينة، مدعومة باتحاد عمال البلور فيها، تبدو وكأنها تراهن على هذا الهدف وتنتظر قرار اللجنة التي تعقد اجتماعها في جزيرة بالي، أواخر هذا الشهر، كما ينتظر التلميذ نتيجة الامتحان.

إن بلور ليموج يتمتع بسمعة عالمية لا نظير لها. والأطباق والفناجين الممهورة بختم مصانعه تستحق أن تسمى «صحاف الملوك» لأن كبار العائلات النبيلة، شرقا وغربا، يعتمدونها في مآدبهم وعلى موائدهم. ويقود حملة الترشيح للائحة التراث ميشال برناردو، نائب رئيس اتحاد عمال الخزف. وهو يقول إن وزارة الثقافة الفرنسية أيدت ملف المشروع، وبعد ذلك قام فريق من خبراء اليونيسكو بدراسته وإدراجه على جدول اجتماع لجنة التراث العالمي غير المادي للإنسانية، والمؤلفة من ممثلي 21 بلدا. وطبعا فإن دخول الخزف الفرنسي إلى اللائحة يعتبر اعترافا بالمهارة الاستثنائية والمتوارثة للعاملين في هذه الحرفة اليدوية. وهو قد يكون خطوة نحو اعتماد علامة تجارية باسم «بلور ليموج» تمنع من إغراق السوق ببضائع تنتحل هذه التسمية.

رأت هذه الحرفة النور بين عامي 1765 و1770، بعد اكتشاف كميات من مادة الكاولين الأساسية لصناعة الخزف، في ضواحي ليموج. وهي نوع من الطين الأبيض المفتت والشفاف القابل للتشكيل الحراري. وكانت هذه المادة معروفة أصلا في الصين، البلد الذي اشتهر بالخزف الذي يحمل اسمه. أما كيف انتقلت مهارات الصنعة إلى الفرنسيين فإن التاريخ يقول لنا إن راهبا يسوعيا يدعى فرانسوا كزافييه دونتركول أقام في الصين، وتمكن في بدايات القرن الثامن عشر من دراسة وتحليل أسرار الخزف الصيني، وهو الذي وقف وراء إنتاج الخزف الحقيقي في عدد من مدن أوروبا، وبالأخص ليموج. فقد سجل ذلك الراهب تفاصيل تلك الحرفة في رسالتين شهيرتين مؤرختين في الأول من سبتمبر (أيلول) 1712 وفي الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 1722. وطوال القرن الثامن عشر كانت تصل إلى فرنسا مجلدات مصورة لمختلف مراحل صناعة الخزف، بالإضافة إلى عينات من طين الكاولين، الأمر الذي سمح بنشوئها في القارة العجوز.

لقد ظهرت مادة تشبه الكاولين في مناطق أخرى من فرنسا، أما مستودع «سان ايري لا بيرش»، القريب من ليموج، فيعود فضل العثور عليه عام 1767 إلى طبيب جراح يدعى دارنيه، وهو الذي أخبر أحد رفاقه الصيادلة بوجود طين أبيض كانت زوجته تستخدمه في غسيل الثياب. ولعل مسحوق الغسيل الغريب ذاك هو الذي جعل من المدينة عاصمة للأواني والمزهريات الخزفية الرائعة التي عرفت باسم «بورسلين ليموج». فقد اشترى الملك لويس الخامس عشر مستودع الكاولين لكي يستأثر القصر الملكي بإنتاج الخزف الذي تأسس أول مصنع له في المدينة عام 1771، بإدارة الأخوين فورنيرا، وتم إلحاق المصنع بمعامل «سيفر» الملكية وبقي كذلك حتى عام 1794. وبعد ذلك بأعوام قلائل، وكانت الثورة الفرنسية قد قامت وقضت على العهد الملكي، تمكن صناعيّ يدعى فرانسوا آليوو من تطوير نوعية الإنتاج في مصنعه ومن المراقبة النوعية لكل الخزف الذي تنتجه مصانع المدينة، لا سيما وأن مستودع الكاولين كان يقع ضمن الأراضي العائدة له.

يتميز طين ليموج ببياضه، وكان بعد سحقه في المطاحن الواقعة في بلدة «فيين» يغذي، بالإضافة إلى المصانع المحلية، مصانع الخزف في أمستردام وكوبنهاغن ودرسدن ولندن وزوريخ وسان بيتسبيرغ وغيرها من مدن أوروبا. ومع حلول القرن التاسع عشر تزايدت المصانع في ليموج حتى قارب عددها العشرين. ثم ارتفع العدد إلى ثلاثين بفضل الصناعي الأميركي ديفيد هافيلاند. لقد أُغرم الرجل بـ«ذهب ليموج الأبيض» فغادر الولايات المتحدة ليستقر مع ولديه تشارلز وثيودور في المدينة ويؤسس بمساعدتهما مصنعا يحمل اسم العائلة. وسرعان ما أثبت هافيلاند وولداه مهاراتهم الاستثنائية في الابتكار بحيث صار مصنعهم ذا شهرة ذائعة في العالم، على مدى قرن ونصف القرن، وانتقل تأثيره إلى المصانع المحلية الأخرى. وطبعا اجتذبت أنوار هافيلاند الفراشات النادرة من عمال الخزافين المبدعين، أمثال داموس وبراكمون. وفي ما بعد راح كبار فناني العصر يصممون الصحون والنقوش للمصنع، مثل سلفادور دالي وجان كوكتو وجان دافي وسوزان لاليك وساندوز وكاندنسكي. وكانت مساهمة هؤلاء حاسمة في نقل الصناعة الخزفية من حقل التزيين والهدايا إلى فضاء الفن الراقي.

وكما وقع الملك الفرنسي لويس الخامس عشر في غرام البورسلين، انتقلت العدوى إلى كل العائلات الملكية في العالم وصارت الطلبات تتكاثر من هذا البلاط أو ذاك، أو من هذا القصر الرئاسي أو ذاك، من اليابان وإمبراطورها شرقا وحتى الولايات المتحدة ورئيسها روزفلت غربا، مرورا بالقصور الملكية في المغرب. والعائلات الملكية والأميرية في الشرق الأوسط والخليج. وكان الهدف يتركز على اقتناء القطع النادرة أو التوصية على أطقم كاملة للسفرة، بمئات القطع، تحمل شعارات العائلات الحاكمة.

صار الخزف شغل أهالي ليموج الشاغل. وانخرط رجالها ونساؤها في مصانعه التي نمت حولها مهن جانبية كثيرة، مثل النقاشين والمصممين والرسامين ورافعي الأخشاب من النهر لتغذية أفران التزجيج. ولما قام عمال فرنسا بإضرابهم التاريخي عام 1905 كان شغيلة ليموج من أبرز المضربين، بعد أن تغلغلت بينهم النقابات الوليدة وكسبت ثقتهم. لكن العمال المهرة يتقاعدون ولا يوجد من يحل محلهم من بين الشباب، لذلك فإن مجموع أصحاب الصنعة في ليموج لا يتجاوز اليوم ألف عامل، وهم يتوزعون على ثلاثة مصانع كبرى. والحقيقة أن صناعة الخزف الراقي تواجه أزمة منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي لا تستجيب لضرورات تغيير المكان والانتقال إلى البلاد ذات الأيدي العاملة الرخيصة. ولهذا اشترت مجموعات استثمارية عالمية عددا من مصانع ليموج الصغيرة وحولت خطوط الإنتاج إلى الصين، حيث يجري استغلال السمعة التجارية للمدينة بعيدا عن أهلها. ولهذا السبب يكافح اتحاد عمال الخزف في ليموج من أجل إصدار علامة خاصة بهذه الصناعة الفرنسية، تحظر على الإنتاج الأجنبي التسمي بها.