من يعرف «باريس المزيفة» التي شيدت لخداع الطائرات الألمانية؟

أوروبا احتفلت بالذكرى الـ93 لهدنة الحرب العالمية الأولى

برج إيفل
TT

هل تتذكرون الدبابات والطائرات الوهمية المصنوعة من مواد خفيفة، التي حاول صدام حسين أن يخدع بها قوات التحالف التي دمرتها، على أنها أسلحة حقيقية، عام 1991؟ إن الفكرة ليست جديدة، بل تعود إلى نهايات الحرب العالمية الأولى. لقد خطط الفرنسيون لبناء نسخة ثانية من باريس على أمل خداع الطيارين الألمان الذين استهدفوا قصف باريس الحقيقية.

إنها ورشة لم يسمع بها الكثيرون، لكن هناك من يستذكرها بمناسبة الذكرى الـ93، التي مرت أمس، للهدنة التي أعقبت الحرب. لقد بوشر العمل بتلك الخطة لفترة وجيزة عام 1917، لكنها لم تنتهِ كما كان العسكريون قد رسموا لها، على أساس قناعة قديمة تقول إن الحرب خدعة. وقد عاد أحد المدونين إلى تلك المغامرة، مؤخرا، ونشر الخرائط والصور العائدة لها، نقلا عن عدد من مجلة «أخبار لندن المصورة» البريطانية، صادر في 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1920. وسرعان ما تلقفت صحف أخرى الحكاية المثيرة، مثل صحيفة «لوفيغارو» التي استرجعت وقائعها عشية احتفال فرنسا بعيد الهدنة في 11 نوفمبر، وهو يوم عطلة رسمية سنوية هنا. وتشير المدونة إلى أن بناء باريس المزيفة كان قد بدأ قريبا من بلدة ميزون لافيت، الواقعة إلى الشمال الغربي من العاصمة. وهي اليوم منطقة سكنية تمتلئ بالعمارات، لكنها كانت، في أوائل القرن الماضي، أرضا صناعية شبه خالية تقع على ضفة النهر في منحنى يشبه انحناءات السين في باريس.

طبعا، كان من شبه المستحيل أن تقام عاصمة ثانية بمساحة باريس، لمجرد تضليل العدو؛ لذلك قامت الخطة على بناء المعالم الرئيسية الكبرى والمشهورة للمدينة، مثل ساحة قوس النصر، وجادة الشانزليزيه، وبرج إيفل، ودار الأوبرا والجادات الكبرى المحيطة بها. كما تتضمن الورشة تشييد نماذج مزيفة لمحطات القطار التي يسعى الطيارون لتدميرها كأهداف استراتيجية، وأهمها محطة الشمال غار دونور. إنها المحطة التي تنطلق منها، حاليا، القطارات المتوجهة إلى العاصمة البريطانية لندن.

جدير بالذكر أن تلك الخطة قد وُضعت في زمن لم يكن فيه الطيارون يهتدون بأجهزة الرادار، بل يعتمدون على الاستطلاع والرؤية، بالدرجة الأولى. لذلك جيء بمهندس خبير في الإنارة، يدعى فرناند جاكوبوزي، لتوزيع الأضواء بشكل يماثل الجسور والمعالم والمباني في مدينة النور. وتصور أصحاب الخطة أن من السهل، وفق هذه التفاصيل، خداع الطيارين في الليل، بأضواء مزيفة؛ ذلك أن القوة الجوية كانت تعتمد وسائل بدائية قياسا بما يتوافر لها في زمننا الحاضر. وكان الطيارون الألمان يقومون بطلعات جوية سريعة فوق باريس ولندن ويسقطون حمولة قنابلهم على أهداف معينة تعطى لهم. ومع هذا، وعلى الرغم من أن الخطة لم تقنع جميع القادة العسكريين الفرنسيين بفعاليتها، فقد بدأ تنفيذ مراحلها الأولى. ويمكن، حسب الصور المنشورة في المجلة، عام 1920، مشاهدة هياكل متوازية كانت لا تزال قائمة على الأرض حتى بعد مرور سنتين على إعلان الهدنة. وكان الهدف منها الإيحاء بأنها سكك حديدية في النهار، وقطارات مضيئة في الليل. كما شيدت عمارات من الخشب الخفيف واشتغل رسامون في تمويه الواجهات بحيث تبدو طبقا للأصل ورسموا على الأسطح بقعا توحي بالقذارة وتأثيرات الطقس.

وحسب المؤرخ الفرنسي البروفسور كلود دولارو، فإن فكرة خداع الطيارين الألمان ببناء باريس ثانية هي قصة مثيرة لم يسمع بها الكثيرون من أبناء المدينة. فقد حُفظت الخطة سرية لأسباب كثيرة، لكنها تعكس الجدية التي تعامل بها القادة الفرنسيون في جهاز الدفاع ضد الطائرات، مع الخطر الألماني واحتمال قيام طيران العدو بسلسلة هجمات على العاصمة، دون أن يخطر ببالهم أن الحرب كانت تقترب من نهايتها. وحين قام الألمان بآخر هجوم جوي على باريس، في سبتمبر (أيلول) 1918، كان العمل في المدينة المزيفة لم ينته بعد.

تم تفكيك «اللعبة» بعد انتهاء الحرب، ونجت باريس إلى حد كبير من القصف الألماني، سواء في الحرب العالمية الأولى أو الحرب العالمية الثانية، في حين تجرعت لندن قنابل طائرات المحور التي انهالت عليها وعلى غيرها من المدن البريطانية وقتلت الآلاف من أبنائها ودمرت عمرانها.

وعندما خرجت فرنسا، وحلفاؤها، منتصرة في الحرب، تم تكريم المهندس جاكوبوزي على عمله الذي كان يصب في الجهود الدفاعية. وهو الذي وضع، فيما بعد، أول تصميم لإنارة برج إيفل في زمن السلام.