الارميتاج يلفح مدريد بنسمة هواء.. لكنها دافئة

120 من مقتنياته ولوحاته الفنية تمتد من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن العشرين

الملكة صوفيا مع بعض المسؤولين من متحف الارميتاج والمتحف الإسباني برادو
TT

يولد دخول قاعة المعرض المؤقت لمتحف برادو رجفة حقيقية في الجسم ورعشة فنيه في النفس في الوقت ذاته، فالأعمال الفنية المعلقة على الجدران، أو الموضوعة على الحوامل، تنقل الزوار لواحد من أهم المتاحف في العالم، وهو متحف «إرميتاج» في مدينة سانت بطرسبورغ في روسيا.

ويشعر الزائر بعد أن يسير بضع خطوات بالدفء لاستمتاعه برؤية بعض الأعمال الفنية التي لم تحتوها جدران المتحف الأربعة من قبل قط، وليس فقط بسبب الشمس الساطعة التي تنير مدينة مدريد، والتي يمكن رؤيتها من نوافذ المتحف، حيث تم جلب 120 عملا فنيا من متحف «إرميتاج» الروسي لعرضها في متحف «برادو» في مدريد في معرض تحت عنوان الـ«إرميتاج في برادو»، والتي أظهرت مدى الموسوعية التي تتسم بها مقتنيات متحف «إرميتاج».

ونتيجة لهذا السبب من الممكن رؤية تحف أثرية رائعة في هذا المعرض، ونماذج من فنون الزخرفة، ومجموعة من مقتنيات المتحف المرموقة من اللوحات الفنية والتماثيل والرسومات التي تمثل فترة تاريخية كبيرة تمتد من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن العشرين، حيث سيتمتع الزائر بمشاهدة لوحة الفنان التجريدي الروسي فاسيلي كاندينسكي التي تبدو أشبة بزي المحكمة أيام القيصر الروسي، ومشط ذهبي يجسد مشهد معركة، وهو نحت من أعمال السكوثيون يعود تاريخه إلى القرن الرابع ويعد واحدة من أهم القطع الفنية لأكبر مجموعة من القطع الفنية المصنوعة من الذهب والتي تنتمي للبدو الرحل القدامى في أوراسيا.

وقال ميخائيل بيوتروفسكي، المدير الروسي المسؤول عن المعرض: «يحول المعرض صالات العرض في متحف برادو إلى صورة مصغرة من متحف (إرميتاج)، متيحا للجمهور الزائر للمتحف الفرصة للتعرف على تاريخ متحف (إرميتاج) نفسه، إلى جانب إتاحة الفرصة له لاستكشاف مقتنيات المتحف من الأعمال الفنية والأثرية الرائعة».

وينقسم المعرض إلى 10 أقسام تحمل عناوين مختلفة وتحاول أن توضح المراحل المختلفة التي مر بها المتحف الروسي الشهير منذ نشأته في قصر الشتاء الذي شيده القيصر الروسي، بطرس الأكبر، ومجموعة مقتنياته الفريدة التي تم جمعها على مدى أكثر من ثلاثة قرون.

ويحمل القسم الأول اسم «المؤسسون الإمبراطوريون الأولون للإرميتاج» وهو يحتوي على مجموعة من الأعمال الفنية العظيمة التي تم نقلها من سانت بطرسبورغ، مثل لوحة «سانت سيباستيان» لتيتيان، ولوحة «عازف العود» لكرافاجيو، ولوحة «وجبة الغداء» لفلاسكويز، إلى جانب مجموعة من البورتريهات التي تم نقلها أيضا إلى مدريد والتي تتضمن بورتريه للمؤسس الروسي للمتحف، بطرس الأكبر، وبورتريه لحفيدته السياسية، وبورتريه لكاثرين العظيمة وحفيدها، نيكولاس الأول.

وقد كان لهؤلاء القياصرة الثلاثة دور كبير في نشأة وتطور متحف الـ«إرميتاج»، حيث شيد أولهم قصر الشتاء، بينما قامت كاثرين، وهى أميرة ألمانية نشأت على قراءة أعمال فولتير، بشراء مجموعة من اللوحات الأوروبية، وكان نيكولاس هو من قام في نهاية المطاف بتوسيع المعرض وإعطاء المتحف هيئته التي يوجد عليها الآن، بالقرب من المقر الإمبراطوري.

يشكل مبنى «الإرميتاج»، تحديدا، الجزء الثاني من هذه الزيارة، ومن خلال العنوان «سان بطرسبورغ والإرميتاج» تظهر مجموعة من الصور الطبيعية التي كان عليها هذا القصر، الذي بني على ضفاف نهر نيفا، وكيف تطورت المدينة مع المتحف.

أسس بيتر الأكبر، الذي أسس سان بطرسبورغ عام 1703، قصر وينتر في البداية، ليتم استبداله فيما بعد بالمبنى الرائع الذي نراه اليوم، والذي أنشئ بين عامي 1754 و1762. بيد أن تاريخ الإرميتاج كمتحف فني بدأ عام 1764 مع امتلاك كاثرين لمجموعة لوحات من التاجر غوتزكويسكي.

وبمقدور الزائر مشاهدة المناظر الخارجية للقصر، وشوارع المدينة في مهدها، ومكتبتها، وبعض صالات العرض من المتحف أو صور لضفاف نهر نيفا، ويساعد هذا القسم على تكوين صورة خارجية لواحد من أهم المعارض الفنية قبل التجوال بين مجموعاتها.

بعد الانطباع بتصور مشهد ثلجي، يكون الذهب أول ما يصادفنا في الجزء التالي، ذهب البدو الأوراسيين، الذي يعرض ضمن المجموعة التي تعرف باسم مجموعة سيبيريا لبيتر الأول، والتي تم جمعها في القرن الثامن عشر مع بعض القطع التي تم نهبها من مملكة كورغان القديمة والقطع الأخرى التي اكتشفت أثناء البعثات الأثرية الأولى، وتأتي الأساور، والدبابيس المنقوشة بالذهب والزجاج المزخرف، والأمشاط التي تصور معركة، بل وحتى مشاهد الحيوانات على مقابض الأبواب التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، كأحد المعروضات التي توجه الزائر إلى الغرفة التالية للثروة، (الذهب اليوناني).

وتحتوي مجموعة الإرميتاج من الحلي اليونانية على مجوهرات قديمة ذات أهمية كبرى، والتي دخلت المتحف كمقتنيات وهدايا وهبات شخصية إلى جانب تلك التي أضيفت من البعثات الأثرية الرسمية التي عملت على الساحل الشمالي للبحر الأسود. وقد بدأت أعمال التنقيب في هذه المنطقة أواخر القرن الثامن عشر بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى إمبراطورية كاثرين الثانية في عام 1783 في أعقاب الحروب الروسية - التركية.

وتنتمي غالبية القطع المعروضة إلى خبيئة تم اكتشافها عام 1830 في شبه جزيرة كيرتش، فإلى جانب الجثث كان هناك الكثير من المجوهرات ذات نمط المحاكاة، من النقش البارز على المعادن والذي يصور حياة اليونانيين في تلك الفترة من القرن الرابع قبل الميلاد. من هذه النقطة، فقد حان الوقت لأهم جزء من المعرض لمشاهدة روائع مثل لوحة سانت سيباستيان الأخيرة لتيتيان، والتي تم شراؤها في البندقية عام 1850، وعازف الفلوت لكارفاجيو التي رسمها للماركيز فينشنزو غيستنيان في باريس في عام 1808، واللوحات الإسبانية التي رسمها فلاسكويز وإل غريكو وريبيرا، وكذلك اللوحات الهولندية والفلمنكية التي تعود إلى القرن السابع عشر لرسامين مثل روبنس، وفان دايك، ورامبرانت وهالس.. كما يضم المعرض لوحات لشامبين وبوسين ولا ناين وبوتشر ولوحة لديورير وأعمال نحت للفنان أنطونيو لامباردو، وتمثال نشوة القديسة تيريزا الطيني للنحات برنيني (في قسم الرسم والنحت).

وفي مشهد البلاط في الإرميتاج «يعرض ثوب من البلاط الإمبراطوري لزي حارس من فرقة الفرسان، ووسام سان أندرو، ومزهريات ولوحات ومنحوتات، والدراسات.. كما يعرض المتحف أيضا الدقة الأوروبية والترف الشرقي الذي ميز البلاط الروسي».

بيد أن الإرميتاج، هو في الأساس بناء يعود إلى القرن الثامن عشر، لهذا السبب، كانت هناك ضرورة لإنشاء قسم يضم لوحات ومنحوتات تعود إلى القرن الثامن عشر في هذا المعرض. ومن الممكن الاستمتاع ببعض أرقى مجموعات النحت الكلاسيكية الجديدة في العالم، إضافة إلى المجدلية التائبة، والأعمال النحتية الأكثر حسية وتأثيرا لأنطونيو كانوفا.

وقبل الدخول إلى الجناح الخاص بالقرنين التاسع عشر والعشرين، سيكون لدى الزوار فرصة فريدة للتمتع بالفنون الزخرفية الغربية، حيث تكمن الكنوز الآسيوية في مجموعة من المجوهرات والأغراض الإمبراطورية الثمينة.

في بداية القرن الماضي، كان مسؤولون عن المتحف الروسي على علم بأن مشترياتهم تراجعت وأن الإرميتاج يعاني من نقص في اللوحات المعاصرة، لكن الثورة الروسية، وقرارها بتأميم المجموعات الخاصة لدى الكثير من الأرستقراطيين سد هذه الفجوة، ومن ثم يمكنك في متحف برادو، زيارة لوحات فريدريش، ومنحوتات لرودان أو أعمال إنجرس، ويمكن مشاهدة هذا العصر في قسم «المجموعات الفنية للقرنين التاسع عشر والعشرين».

إذا ما أحس الزائر بأنه قد وصل إلى ذروة المعرض في هذه القاعة، ينبغي عليه معاودة التفكير مرة أخرى، فيجب عليه مواصلة التجوال لاكتشاف أحدث مساهمات البيناكوتيسا الروسية وتحديدا في اللوحات الانطباعية والتعبيرية، لفنانين مثل سيرغي ستشكوكين وايفان موروزوف، والذي كان عنوانا للقسم الأخير، تكريما لهذين التاجرين العظيمين اللذين اشتريا هذا الفن الطليعي قبل تأميم مجموعاتهما من قبل الحكومة البلشفية، وقد ركز ستشكوكين على الحصول على لوحات لغوغان، وبيكاسو وماتيس فيما ركز موروزوف على اللوحات الانطباعية، من بينها بركة في مونتغيرون لمونيه وكذلك لوحات سيزان.

ليس هذا هو أول تبادل بين معرض فني إسباني والمتحف الروسي، ففي فبراير (شباط) الماضي، وعلى مدى أكثر من شهر، عرض الإرميتاج لوحات 66 مدرسة إسبانية وإيطالية وفلمنكية تنتمي إلى البرادو. ووصف بأنه المعرض الأكثر زيارة في تاريخ المتحف الروسي، حيث فاق عدد الزوار أكثر من 630.000 زائر، وذلك بفضل اتفاق بين وزارة الثقافة الإسبانية ومتحف الإرميتاج، وسيواصل المعرض نشاطه حتى 25 مارس (آذار) المقبل.