تكنولوجيا الواقع الافتراضي.. آفاق واعدة في مجالات الطب والتمريض

تزداد أهميتها مع ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وزيادة عدد المسنين

يقول الباحثون إن مثل هذه التكنولوجيا الحديثة سوف تزداد أهميتها مع ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، وزيادة عدد المسنين
TT

تعد تكنولوجيا الواقع الافتراضي، من مجالات البحوث المتطورة المتزايدة والواعدة، التي أصبحت واقعا في العديد من المجالات، وبخاصة في الطب والتعليم والتدريب والأمن والدعاية والإعلان والتجارة الإلكترونية، مثل تطبيقها في أنظمة المحاكاة الخاصة بتدريب الأطباء والطيارين على عمليات افتراضية قبل إجرائها في الواقع. وتتيح هذه التكنولوجيا للإنسان أن يتفاعل ويندمج ويطلق أفكاره مع عوالم افتراضية، ليحقق من خلالها أهدافا معينة ويكتسب خبرات جديدة، قد يصعب عليه تحقيقها في عالم الواقع.

ويمكن تعريف الواقع الافتراضي (Virtual Reality) بأنه خلق بيئة افتراضية ثلاثية الأبعاد، تبدو وكأنها بيئة واقعية، وذلك باستخدام جهاز الكومبيوتر، من خلال الرسومات الكومبيوترية وأجهزة المحاكاة، بحيث يتفاعل المستخدم مع عناصرها ومفرداتها وتفاصيلها الدقيقة، بطريقة تجعله يشعر وكأنه في بيئة حقيقية.

وتعد مجالات الطب والتمريض، من المجالات المهمة التي تستخدم فيها تكنولوجيا الواقع الافتراضي، فمن خلالها، يمكن تدريب الجراحين على عمليات افتراضية قبل القيام بالعمليات الجراحية الواقعية، وكذلك محاكاة مهنة التمريض.

ومؤخرا، خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، نشرت مجلة «تكنولوجي ريفيو» الأميركية، التي يصدرها معهد ماساتشوستس الأميركي للتكنولوجيا، خبرا عن قيام باحثين في جامعة نورث إيسترن الأميركية، بتطوير ممرضة ومدربة تمرينات رياضية افتراضيتين، تتمتعان بقابلية وفاعلية لدى المرضى. فقد قال المرضى الذين تفاعلوا مع الممرضة الافتراضية في التجربة وتدعى «إليزابيث»، إنهم يفضلون المحاكاة الكومبيوترية على الدكتور أو الممرضة الحقيقية، لأنهم لا يشعرون بالاستعجال الذي يحدث عند التحدث إليهما.

ففي تجربة إكلينيكية لهذه التكنولوجيا، وجد أن الممرضة الافتراضية «إليزابيث» لها تأثير مفيد في رعاية المرضى، فبعد شهر واحد من خروج المرضى الذين تفاعلوا مع هذه الممرضة الافتراضية، كان هؤلاء المرضى أكثر معرفة بتشخيصات أمراضهم، وعمل مواعيد المتابعة مع طبيب الرعاية الأولية.

يقول تيموثي بيكمور، الأستاذ المساعد في كلية علوم الكومبيوتر والمعلومات في جامعة نورث إيسترن الأميركية، ورئيس الفريق البحثي: «نحن نحاول عرض شيء ليس من شأنه فقط تبادل المعلومات، بل أيضا إحداث تبادل وتفاعل اجتماعي»، مضيفا أن «هذه الممرضة تظهر تعاطفا مع المريض الذي يعاني من مشاكل، ويجد ذلك صدى لدى المرضى».

وقد بدأ بيكمور، بالاهتمام بالعمل مع مساعدين افتراضيين، بعد رؤيته عروضا أولية لأشخاص تفاعليين متحركين، حيث يقول: «لقد ذهلت بكيفية إعجاب الأفراد بهم على الفور، وكذلك بمدى السرعة التي يزول بها هذا التأثير، بمجرد أن يقوم أحد هؤلاء الأشخاص بعمل خاطئ»، ويضيف: «كنت مهتما بكيفية هندسة هؤلاء الأشخاص، حتى يتسنى للإعجاب بهم أن يدوم لفترات طويلة، وكذلك بإمكانية استخدامهم لأغراض عملية لا للتسلية والترفيه فقط».

يقول الطبيب جوزيف كفيدار، مؤسس ومدير مركز الرعاية الصحية المتصلة (Connected Health)، ومقره بوسطن في ماساتشوستس الأميركية، بأنه «عادة ما يتخوف الأفراد عند سماعهم بأنهم سوف يتلقون رعاية من أجهزة الكومبيوتر، ولكن شعور المرضى بالرضا والتفاعل الإيجابي مع الممرضين الافتراضيين، من الأمور التي تبعث على التفاؤل والارتياح»، ويشير مصطلح «الرعاية الصحية المتصلة»، إلى مجموعة من فرص برامج الرعاية التي يمكن استخدامها بواسطة التكنولوجيا، وكذلك إمكانية وضع استراتيجيات جديدة في مجال تقديم الرعاية الصحية.

ولتطوير «أفاتارز» يتم التحكم فيها بواسطة الكومبيوتر (computer-controlled avatars)، يسجل الباحثون أولا التفاعلات التي تتم بين المرضى والممرضات الحقيقيين، وبعد ذلك يقومون بمحاكاة الاتصالات غير الشفهية للممرضات، وذلك بمنح الشخصية الافتراضية حركات لإشارات اليد وتعبيرات الوجه، وتكون الرسوم المتحركة الناتجة أبسط بكثير من ألعاب الفيديو المتطورة الحالية. ويشير مصطلح «أفاتارز» (Avatars) في الكومبيوتر إلى تمثيلات رسومية (graphical representation)، تتضمن تخصيص مجموعة من العناصر مثل الخلفيات والابتسامات المتحركة وإشارات اليد وتعبيرات الوجه وإمكانية التعبير عن الأفكار في شكل صور.

وقد أضاف الباحثون إلى الـ«أفاتارز» حديثا قصيرا، يتم فيه سؤال المستخدمين، عن الفرق الرياضية المحلية والطقس، التي غالبا ما يقوم بها الممرضون والمدربون الحقيقيون، لإراحة المرضى والتخفيف عنهم.

وتعد التفاعلات اللفظية بين المريض والممرضة أساسية إلى حد ما، فالممرضة أو المدرب يكون لديهما في الغالب مجموعة كبيرة من الأسئلة، وفي برنامج الكومبيوتر الخاص بالممرضة الافتراضية، يختار المستخدم الإجابة المحتملة من بين مجموعات الأجوبة، وإذا فرض أن هناك شيئا ما غير موجود ضمن هذه المجموعات، يقوم المساعد الافتراضي بإحالة المريض إلى المسؤول البشري عن الرعاية الصحية، وقد وجد أن المرضى يقدمون معلومات صحيحة عن أحوالهم الصحية عند تعاملهم مع الشخصية الافتراضية، بعكس ما إذا طلب منهم ملء استجواب إلكتروني.

يقول ستيفن سايمون، رئيس الطب الباطني العام، في نظام الرعاية الصحية في بوسطن للمحاربين القدامى: «إنه تم تصميم برنامج الممرضة الافتراضية، من أسفل إلى أعلى، ليكون صديقا للمرضى، وودود وجذاب، وليس هناك ضرورة لأن يكون أكثر إنسانية في الشكل والتعامل، فمن خلال المحاولة والخطأ، تعرف الباحثون على الخصائص التي تجد صدى وتجاوبا من المرضى»، وأضاف: «أعتقد أنهم في المراحل الأولية لمعرفة أفضل الطرق لاستخدامه مع مرضى يعانون من حالات مرضية مزمنة مثل مرض السكري والربو التنفسي».

ويقول الباحثون إن مثل هذه التكنولوجيات الحديثة سوف تزداد أهميتها مع ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، وزيادة عدد المسنين. يقول كفيدار: «نحن نعرف أنه ليس لدينا العدد الكافي لمن يقدمون الرعاية، والأمر يزداد سوءا، كما أن ما يقرب من 60 في المائة من تكلفة توفير الرعاية الصحية يأتي من مصادر بشرية، حتى إذا أردنا تدريب عدد أكبر من الأفراد، هذه ليست الطريقة المثلى لتحسين التكاليف».

ويذكر أن الباحثان كفيدار وبيكمور، يتعاونان معا، في محاولة أخرى، تجرى في المنزل، وفيها تقوم مدربة افتراضية تدعى «كارين» بتشجيع أفراد بالغين يعانون من زيادة وزن وكثيري الجلوس، على ممارسة تمرينات رياضية. حيث يقوم المستخدمون بزيارة المدربة الافتراضية «كارين»، 3 مرات أسبوعيا، حيث تقدم لهم توصيات وتستمع لمشاكلهم، وبعد 12 أسبوعا، وجد أن هؤلاء الأفراد الذين تحدثوا مع هذه المدربة الافتراضية، أصبحوا أكثر نشاطا بشكل ملحوظ، من الأفراد الذين يستخدمون مقياس السرعة لتسجيل مقدار ما قاموا به من مشي.

يقول بيكمور: «يبدو أن كبار السن أكثر تقبلا لبرنامج الممرضة الافتراضية، حيث إنهم يحبون الجانب الاجتماعي منه، وفي ما يتعلق بالمساعد الافتراضي المنزلي، أعتقد أنهم يرغبون في الدردشة معه فترة أطول مما سمحنا لهم بها».

وحيث إن بعض المستخدمين يريدون أن يعرفوا المزيد عن مدربيهم الافتراضيين، لذلك قام فريق بيكمور، بإعطاء الشخصيات قصة خلفية، فوجدوا أن المشاركين الذين حكى لهم المدرب الافتراضي قصص بصيغة المتكلم، كانوا يدخلون على البرنامج أكثر من أولئك الذين سمعوا نفس القصص ولكن بصيغة الغائب.

ويضيف بيكمور قائلا: «لقد أجرى المشاركون في التجربة العديد من المحادثات مع المدرب الافتراضي، عندما كان يبدو أكثر إنسانية، وعند سؤالي المشاركين عما إذا كانوا يدركون أن هذه الشخصية افتراضية، أجابوا بأنهم ينسون هذا الأمر أحيانا، وقالوا: إننا نشعر بالذنب أحيانا لعدم التسجيل للدخول على البرنامج. وهذا يعني أن المشاركين قد شكلوا نوعا من الرابطة العاطفية بينهم وبين المدرب الافتراضي».

ويعمل فريق بيكمور الآن على تصميم ممرضة افتراضية تظل في حجرة المستشفى، ويمكنها أن تتحدث مع المرضى عن تجاربهم في المستشفى، والإبلاغ عن مستويات الألم، وطرح الأسئلة، كما يدمج الباحثون أجهزة استشعار في نظام البرنامج لتسجيل متى ينام المريض، وتعقب دخول الأطباء لغرفته. ففي دراسة استطلاعية، كان متوسط عدد المحادثات التي يجريها المرضى مع الممرضة الافتراضية، 17 محادثة يوميا، ويقول بيكمور إنه «عند استجوابنا لهؤلاء المرضى في ما بعد، أكدوا أن الممرضة الافتراضية قد خففت من الشعور بالوحدة التي شعروا بها خلال بقائهم وحيدين في المستشفى».

ويقول الباحثون إن من بين التحديات في توسيع نطاق هذه التكنولوجيات، هو خلق شخصيات افتراضية يمكنها أن تتعلم من المستخدمين وتتكيف مع تفضيلاتهم ومتطلباتهم.

ويذكر أن شعبية مصطلح «الواقع الافتراضي»، ترجع إلى عالم الكومبيوتر الأميركي، جارون لانيير، مؤسس شركة «VPL» لبحوث الواقع الافتراضي، الذي يعمل الآن خبيرا ومستشارا للعديد من مشاريع الواقع الافتراضي، فقد وضع هذا المصطلح في عام 1987، كما أنه من أوائل المخترعين لتطبيقات ومعدات الواقع الافتراضي، بما فيها القفازات التي تراقب حركة يد المستخدم وتمده بمؤثرات حاسة اللمس، كما أنه من أوائل مصممي تطبيقات الواقع الافتراضي في مجال الطب، التي تسمح للأطباء بإجراء محاكاة افتراضية للعمليات الجراحية بوسائل مختلفة، للتنبؤ بأفضل وسيلة لإجرائها في عالم الواقع. ويرجع فضل وضع مصطلح «الواقع الافتراضي» مبكرا، إلى كل من الكاتب المسرحي والشاعر والممثل والمخرج الفرنسي أنتونيان أرتوود (1896 - 1948)، في كتابه «The Theatre and its Double» (1938)، وكذلك إلى كاتب الخيال العلمي الأسترالي داميان برودريك، المولود عام 1944، في روايته «The Judas Mandala» (1982).

وجدير بالذكر أنه خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلنت شركة للطب عن بعد (Telemedicine) في منطقة قروية بالهند، عن تقديمها لفحوصات طبية للأفراد، بتكلفة تبلغ دولارا واحدا، فنظرا لعدم وجود عدد كاف من الأطباء في قرية هاري كي كالان في البنجاب بشمال الهند، يمكن للأفراد الذهاب إلى عيادة صحية لأخذ مواعيد مع الطبيب الإلكتروني الذي يظهر على شاشة تلفزيونية كبيرة متصلة بالنطاق العريض للإنترنت. وقد قامت ببناء هذه العيادة وحدة الخدمات الصحية الهندية، التي تعد واحدة في شبكة من 8 وحدات خدمات صحية إلكترونية في الهند (E-Health Points) لتغيير نظام الرعاية الصحية في المناطق الريفية، وموقعها الإلكتروني «www.ehealthpoint.com»، التي تم تأسيسها في الهند، كجزء من الجهود المتزايدة من قبل رجال الأعمال للاستفادة من التوسع السريع في مجال الهواتف الجوالة والنطاق العريض لشبكة الإنترنت، في المناطق الأكثر فقرا حول العالم. ونظرا للنجاحات التي تحققت في عوائد الرسائل النصية للهواتف الجوالة في بعض الدول، يرى العديد من الخبراء أن التطبيق الكبير القادم لهذه التكنولوجيا، سيكون في مجال الطب في الدول الفقيرة.