أحياء السعودية القديمة تجتمع في جدة

معرض «بانورامي» جمع تراث تسع مناطق سعودية تحت سقف واحد

اجتمع الكادي العسيري إلى جوار زيتون الجوف، وجاورت زخارف روشان البيت الجداوي الأبنية الطينية النجرانية، وتناول الجميع الكليجة النجدية وحلاوة اللدو الحجازية وهم يرتدون الأزياء التراثية السعودية لكل المناطق والمحافظات المشاركة في المعرض (تصوير: عدنان مهدلي)
TT

هل قدر لك أن تزور تسع محافظات سعودية في أقل من نصف ساعة، وأن تتعرف على مواقعها وأزيائها التراثية وعاداتها؟.. هذا وأكثر يضعه أمامك معرض بانورامي مقام على هامش ملتقى التراث العمراني، الذي انطلقت فعالياته أخيرا في فندق «هيلتون» بجدة، برعاية الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، وتنظمه هيئة السياحة والآثار بمشاركة العديد من الجهات.

فعلى مساحة تقدر بنحو 1800 متر مربع، اجتمع الكادي العسيري إلى جوار زيتون الجوف، وجاورت زخارف روشان البيت الجداوي الأبنية الطينية النجرانية، وتناول الجميع الكليجة النجدية وحلاوة اللدو الحجازية وهم يرتدون الأزياء التراثية السعودية لكل المناطق والمحافظات المشاركة في المعرض.

ثامر الشيخ، عضو هيئة السياحة والآثار رئيس اللجنة المشرف على المعرض، أكد لـ«الشرق الأوسط» حرص اللجنة على مشاركة القطاعات الحكومية والجهات المسؤولة عن التراث في المعرض، حيث وضعت ضمن أولويات الاختيار في خطوة هدفت اللجنة المنظمة منها إلى ربط الحاضرين بالتراث العمراني. وقال «إن الإعداد وبناء المعرض استغرق نحو شهر، رسمت خلاله أمانات المحافظات وهيئة السياحة الشكل الذي ظهر عليه المعرض بشكل لائق بالحدث».

المعرض، بحسب الشيخ، حظي بإقبال واسع من الزوار، حيث تجاوز عدد الزوار خمسة آلاف زائر في يومين اطلعوا على ما يحويه المعرض من أجنحة تبرز مواقع ومشاريع التراث العمراني في مناطق المملكة، كما نظم عدد من المدارس زيارات لطلابها للمعرض في الفترة الصباحية. وأضاف «شارك في المعرض أكثر من 28 راعيا وعارضا من جهات حكومية وشركات وجمعيات ومراكز معنية بالتراث العمراني، من أبرزها الهيئة العامة للسياحة والآثار، وأمانة محافظة جدة، وأمانة القصيم، والشركة الوطنية للسياحة، وأمانة نجران، ومجلس التنمية بجازان، وجامعة الدمام، وجامعة عسير، والهيئة العليا لتطوير منطقة الرياض وجبل عمر، وأمانة الأحساء، وشركة «سعودي أوجيه»، أمانة الطائف، شركة تراثية، جامعة الطائف، جامعة أم القرى، أمانة الجوف، مجموعة بن لادن، قرية الخبراء التراثية، شركة «اربست». كما شاركت فيه تسع أمانات تمثل مدن الرياض ومكة المكرمة وجدة والأحساء والطائف، إضافة إلى أمانات عسير ونجران وجيزان والقصيم والجوف، فقدمت لزائري المعرض رحلة علمية ونظرية من خلال الصور والمعروضات لأبرز المناطق السياحية في تلك المناطق.

«الشرق الأوسط» تجولت في المعرض، بداية من الركن المخصص لمحافظة الجوف والذي استقبل الضيوف بشجرة الزيتون وفواكه المحافظة المتنوعة، حيث وصفها محمد إبراهيم المشرف على الجناح بأنها سلة الغذاء بما تقدمه من إنتاج. وقال «تعد منطقة الجوف من أغنى مناطق المملكة بالتراث الأثري، وذلك لقدم الاستيطان البشري للمنطقة، وتدل على ذلك الآثار الموجودة التي تؤكد وجود حياة منظمة في هذه المنطقة منذ ما قبل التاريخ المدون للمنطقة قبل العهد الآشوري، ويتمثل ذلك في بعض المواقع التي تعود للعصر البالوليثي القديم والعصر النيوليثي».

ومن أهم المواقع التي صورها الجناح قلعة زعبل التي يرجع تاريخها مع قلعة مارد ودومة الجندل إلى أكثر من ألفي عام، وعدد من الموقع الأثرية الأخرى ومن بينها قلعة مارد وقلعة الصعيدي وزعبيل ودومة الجندل ومنارة مسجد عمر بن الخطاب، وهو أحد أهم المواقع الأثرية في منطقة الجوف والذي ينسب بناؤه إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ويتميز بمئذنته الفريدة من نوعها في الجزيرة العربية والتي يقول بعض المؤرخين إنها أول مئذنة في الإسلام، وقد وصفها أحد الرحالة الذين زاروا المنطقة في القرن التاسع عشر بأنها تشبه المسلة وترتفع 15 مترا. وقد أعيد ترميم بناء المسجد مؤخرا إلا أن المئذنة بقيت محافظة على شكلها منذ أن بنيت قديما.

ومن جانبه، قال أحمد السيف، المشرف على جناح عسير، إن «بناء البيت العسيري والإعداد للجناح استغرق أكثر من عشرين يوما حرصنا خلالها على جمع كل محافظات المنطقة في هذا البيت الذي يمتاز بوجود (القط)، وهي الألوان الزاهية في طلاء المنازل والتي كان يرسمها قديما نساء المنطقة، إضافة إلى السقف المصمم من القصب».

وفي جناح الطائف وقفت قلاعها ومنطقتها التاريخية، وأبرز معالم عكاظ، شواهد شامخة أمام الحضور لتروي قصة مدينة الورود. كما قدمت أمانة نجران مبانيها الطينية وموقع الأخدود الأثري في صورة حية لما تمتلكه المنطقة من مناطق متميزة. ووزعت من جانبها أمانة جيزان الكادي للحضور، فيما بنت الرياض أحد التصاميم المصغرة لأحد قصور الرياض المبنية على أساس معماري اشتهرت به المنطقة.

أما في جناح جدة حيث الرواشين والمجلس الجداوي القديم، فقال المهندس سامي نوار، رئيس بلدية جدة التاريخية، إن المدينة تمتاز بطابعها المعماري الخاص «والذي حرصنا على تقديمه في الركن الخاص بأمانة جدة واستغرق البناء يومين، وتم دعم الجناح بعدد من المقتنيات ليشاهد زواره التراث القديم للمدينة». وأضاف نوار «تم دعم الموقع بمجموعة من الصور للميناء القديم والأسواق والمواقع التراثية القديمة والمشاريع القائمة في جدة التاريخية».

وهنا أكد الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز تبنى ترميم أول مسجدين تاريخيين في جدة التاريخية، وهما مسجد الشافعي ومسجد المعمار واللذان تم الترميم فيهما فعليا مؤخرا.

وأوضح الرئيس العام للسياحة والآثار أن الهيئة تعمل حاليا في أكثر من 12 موقعا للمحافظة على التراث العمراني، وذلك بالتعاون مع البلديات والإمارات والجهات ذات العلاقة، وهناك فعليا بعض المواقع شارفت على الانتهاء، وهذه تعتبر مشاريع أولية، مؤكدا أن هناك تعاونا كبيرا من الوزارات والجهات الأخرى في هذا الشأن، منوها بالاهتمام المتنامي بين الشباب بالمحافظة على التراث العمراني الوطني للمملكة.

وتم خلال المعرض توزيع آلاف المطبوعات والكتيبات المتعلقة بالتراث العمراني، كما حوى عددا من العروض المرئية واللوحات والمجسمات التي تبرز مواقع التراث العمراني في المملكة. وأبدى الزوار اهتماما كبيرا بما شاهدوه في المعرض خصوصا الأطفال من خلال التوثيق بالتصوير وتسجيل المعلومات عن بعض المحتويات الخاصة بالتراث العمراني. وتحولت في الوقت ذاته حلقة النقاش الثالثة لملتقى التراث العمراني تحت عنوان «تنمية وتطوير القرى والبلديات التراثية» إلى ما يشبه رحلة سياحية إلى عدد من القرى السعودية، وذلك من خلال استعراض الخبراء في الجلسة تجاربهم الناجحة في ترميم القرى وتطوير التراث العمراني وتوظيف كل ذلك اقتصاديا.

وقدم في الجلسة عبد الله المغيرة، رئيس مركز أشيقر، تجربة المركز في ترميم البلدة القديمة وإعادتها للواجهة من جديد، مشيرا إلى العوامل التي أدت إلى تجاهلها مسبقا بسبب تراجع العمارة وزحف العمران الحديثة والقروض المقدمة للبناء، إضافة إلى عوامل الهجرة السكانية والنزوح من البيوت الطينية والطفرة الاقتصادية. وقال إن تنامي الوعي من خلال المنظمات المتخصصة والجهود الحكومية أسهم في دعم مشروع الترميم، إلا أنه استدرك بالقول «واجه المشروع العديد من المعوقات، من أبرزها عدم وجود خطط مدروسة لترميم وغياب المتخصصين، واختفاء بعض الملامح للقرية، إلا أن الجهود أسهمت في دعم المشروع».

وقدم محمد يحيى شبلان تجربة قرية رجال ألمع التراثية وجهود المجتمع المحلي السابقة في الإسهام في المحافظة على التراث العمراني للمنطقة من خلال تأهيل المباني الآيلة للسقوط وإيجاد متحف للقرية تم جمع مقتنياته من السكان أنفسهم وبناء قصر للضيافة، إضافة إلى تشجيع النشاط الثقافي والمهرجانات السياحية، مشيرا إلى أن العامل الأكبر لنجاح المشروع هو دعم الأهالي.

كما عرج شبلان على جهود المجتمع المحلي الحالية بعد اعتماد مشروع تطوير «قرية رجال» وتشكيل لجنة لدعم المشروع من الأهالي وتفويض شركة «رجال» لتوقيع جميع العقود نيابة عن المجتمع المحلي، وتوقيع العقد مع بنك التسليف لإنشاء النزل الفندقي وتأهيل القصور مع إحدى المؤسسات.

وطرح الدكتور سليمان السديري، مستشار الهيئة العامة للسياحة والآثار، التصور الأولي لمخطط محلي لتنمية الغاط، المبني على استراتيجية تنمية سياحية في المحافظة، حيث بدأت الرؤية من منطقة الديرة كونها منطقة بكرا ومستقلة تماما عن الغاط الجديدة، وغير مأهولة بالسكان، مما يسهل عملية التطوير واستغلال مقوماتها السياحية الكامنة، وبسبب التكوين العمراني والطراز المعماري المتميز الذي يعكس العمارة النجدية في المنطقة والعناصر الطبيعية والبيئية المحيطة، وتفاعل المجتمع المحلي مع مبادرة مركز الرحمانية الثقافي لتطوير الغاط.

وأضاف السديري «أثمرت الجهود عن قيام مركز الرحمانية الثقافي بتبني وتنفيذ نموذج لوحدة نزل تراثية وقيام الجمعية التعاونية بالبدء في تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع النزل التراثية، إضافة إلى قيام مركز الرحمانية الثقافي بإعداد دراسة جدوى اقتصادية للمشروع بدعم الجمعية التعاونية بالغاط للحصول على تمويل من بنك التسليف». وأكد السديري أن الخطوات القادمة للمشروع تتضمن الانتهاء من أعمال تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع النزل التراثية، وبلورة واعتماد آلية لإدارة بلدة الغاط والنزل التراثية وتشغيلها، إضافة إلى الانتهاء من أعمال مشروع ربط البلدة بالطريق السريع واستثمار الطريق لصالح البلدة، وتكوين حزم سياحية متنوعة وتسويقها لجذب المهرجانات والفعاليات الحالية لداخل البلدة التراثية.

وأوضح الدكتور سليمان السديري أهم الأدوات المساعدة، ومن أبرزها تصميم المخطط العام لاستغلال المقومات السياحية الكامنة ومشاركة وتمثيل الأهالي من خلال أشخاص يتولون إدارة المشروع والتنسيق مع الشركاء مع التعامل مع البنية الأساسية ومعالجة الأملاك وقضاياها.

الدكتور عبد اللطيف الحميد، الأستاذ بجامعة الملك سعود، تحدث عن تجربة محافظة المذنب في تطوير السوق القديمة والمسماة بـ«المجلس» في شرق المذنب بجوار الجامع الداخلي القديم، وكانت هذه السوق قد اكتسبت شهرة في بلاد نجد منذ زمن بعيد، حيث يرجع عمر هذه السوق إلى ما قبل القرن العاشر الهجري. وقال «تقع هذه السوق القديمة والمسماة بالمجلس في شرق المذنب بجوار الجامع الداخلي القديم، وكانت هذه السوق قد اكتسبت شهرة في بلاد نجد منذ زمن بعيد، حيث يرجع عمر هذه السوق إلى ما قبل القرن العاشر الهجري». وأبرز الحميد أهم الأهداف التي حققتها السوق والتي تجب المحافظة عليها، ومن أبرزها جانب التنمية الاقتصادية. وتناول المقتنيات التراثية والحفاظ على السيارات القديمة وحفظ القطع الأثرية من الضياع والحفاظ على الطراز العمراني القديم وتخصيص مواقع لممارسة الحرف القديمة وحفظها من الاندثار والتعريف بالألعاب الشعبية إضافة إلى التنشيط السياحي ورفع الحركة الثقافية. وفي رحلة تراثيه عمرانية خارج المملكة، قدم المهندس فؤاد أغابي، مستشار قطاع الاستثمار بهيئة السياحة والآثار، تجربة الأردن في منطقة جرش، وقال إن التراث العمراني مسؤولية وطنية شعبية، وقال «ليس من المهم الحفاظ على المباني فقط، لكن المهم الحفاظ عليها وتشغيلها، وهو ما عملت عليه بلاده من خلال ترميم وتطوير المباني التراثية والساحات، وتقديم الدعم لشاغلها، ومعاقبة المخالفين فيها، مما أسهم في تحقيق نهضة تراثية في تلك المنطقة».