لماذا لا يرى الجمهور العربي «خنزير غزة»؟

الفيلم الفرنسي نال جائزة في مهرجان طوكيو السينمائي

يهرب مع زوجته إلى أحضان البحر
TT

رغم كثرة المهرجانات السينمائية العربية، فإنه لم يحدث أن فكر القائمون عليها في عرض الفيلم الهزلي للمخرج الفرنسي سيلفان استيبال «خنزير غزة».. فهذا الفيلم الذي جرى إنتاجه هذا العام بإمكانات متواضعة نسبيا واستنادا إلى فكرة غريبة، حاز جائزة الجمهور في مهرجان طوكيو السينمائي الأخير، لكن المشاهدين العرب يحرمون منه. وبدلا من التمتع بالفيلم والحكم عليه، وفقا لرؤية كل متفرج وثقافته ووعيه، تناقلت الصحف والمواقع العربية أنباء عن غضب الجاليات العربية بعد عرض الفيلم في باريس.

أي غضب؟ وأين هم الغاضبون؟ ومن شاهد الغضبة؟ إذ يبدو من الواضح أن النقاد أو المراسلين العرب ما زالوا تحت تأثير النظرة النمطية القديمة للفيلم السياسي المناضل الذي لا يحتمل السخرية والجمع، في شريط واحد، بين القضية والابتسامة. هذا في حين أن المشاهد الغربي تعود أن يتقبل هذه المزاوجة إلى الحد الذي يحصل فيه فيلم «الحياة جميلة» للمخرج والممثل الإيطالي روبيرتو بينيني على 3 جوائز أوسكار، عام 1997، رغم أنه يتجرأ على تصوير معاناة اليهود في المعسكرات النازية من زاوية الفكاهة.

«خنزير غزة»، هو إنتاج فرنسي - بلجيكي - ألماني مشترك، وهو يتطرق إلى حصار غزة ومعاناة أهلها من التعنت الإسرائيلي من خلال حكاية إنسانية عن الصياد الغزاوي جعفر الذي يخرج بمركبه الخشبي الصغير ليبحث عن رزقه، وسط أمواج البحر، لكن حصيلته في ذلك اليوم العاصف لم تكن بضع سمكات سردين صغيرة؛ بل خنزير أسود اللون.

يخاف جعفر ويستعيذ بالله من هذا الصيد المشؤوم. إن أهالي مدينته مسلمون ويحرمون تناول لحم الخنزير، وكذلك الأمر لدى الطرف الثاني وراء قضبان العزل؛ أي اليهود الذين يحتلون المستوطنة الملاصقة لغزة. وهو يقرر، للوهلة الأولى، أن يتخلص منه ويشتري مسدسا من صديقه حلاق القرية لهذا الغرض. وبعد محاولات ومفارقات مضحكة يغير جعفر رأيه ويخشى أن يلوث يديه بالدم النجس للخنزير ويقرر أن ينقله ليخفيه في حمام بيته، ويقفل باب الحمام بالمفتاح لئلا تقع عينا زوجته على الخنزير. لكن مشكلة جعفر هو أن جنودا إسرائيليين يتمركزون فوق سطح داره، رغما عنه، لمراقبة المدينة من ذلك الموقع المرتفع. وهم اعتادوا النزول لاستخدام المرحاض في حمام جعفر، رغما عنه، أيضا، ورغم ما يسببه الأمر من مضايقة لزوجته الفلاحة التي تدبر أمور معيشتها ومعيشة زوجها من شجرة زيتون معمرة وحيدة تنتصب أمام الدار.

يفكر جعفر في أن المسيحي الوحيد الذي لا يحرم عليه دينه تناول لحم الخنزير هو ممثل بعثة المراقبة التابعة للأمم المتحدة في غزة. ويذهب إليه ليبيع له، دون جدوى. ويعود الصياد التعيس ليستشير صديقه حلاق البلدة، فيقول له هذا الأخير إن خنزيره يمكن أن يكون مصدر رزق له لأن بين اليهود، في الجانب الآخر، من يربي الخنازير سرا ويعجبه لحمها. وهكذا يفصل جعفر معطفا لخنزيره من فروة خروف لكي يخفيه تحت هذا الرداء التنكري ويذهب ليحاول بيعه في المستوطنة المجاورة. وهناك يلتقي بمهاجرة من يهود روسيا تدعى لينا، تسأله هل خنزيره ذكر أم أنثى؟ إنها تمتلك خنزيرات وتبحث عن ذكر ليلقحها، لكنها لا تريد الحيوان فوق أرضها بل تطلب من جعفر أن يأتيها بقنينة من السائل المنوي للخنزير. إن لينا تلبس الخنزيرات جوارب لكي لا تدنس أرجلها «أرض إسرائيل».

تسير الأمور على ما يرام، وسط سيناريو محبوك جيدا ومشاهد تستدعي الضحك. ويحصل جعفر على المال مقابل خدماته للينا ويشتري حلية ذهبية لزوجته. لكن الفرحة لا تكتمل؛ إذ يلقي شباب المقاومة الفلسطينية في غزة القبض على الصياد ويحاكمونه بتهمة التعاون مع العدو ومساعدته في تربية الخنازير التي يعتمد جيش العدو على حاسة الشم القوية لديها لكشف مخابئ المتفجرات. وبدل تصفيته، يقرر الشباب تحزيم جعفر وخنزيره بأحزمة ناسفة وإرسالهما لتفجير المستوطنة. ويجري تسجيل فيلم «فيديو» للفدائي جعفر، مثل تلك التي تسجل للفدائيين قبل تنفيذهم عمليات انتحارية. ويذهب جعفر، لكنه ينزع الحزام في اللحظة الحرجة ويعود إلى مدينته لكي يستقبله جيرانه استقبال الأبطال بعد أن شاهدوا فيلم «الفيديو». ولا يتأخر عقاب الإسرائيليين؛ إذ تأتي جرافة لتقلع زيتونة الدار من مكانها وتقطع جذعها العريض الذي تكون عبر مئات السنين. ويهرب جعفر مع زوجته إلى البحر، على متن زورق الصيد الفقير، حيث تلحق به لينا، ليرسو عند أرض خيالية يرفرف عليها السلام والتعايش وقد تبشر بواقع أفضل.

لا نسمع في الفيلم شعارات من أي نوع. لكن بؤس الصياد يقول الكثير عن صلف الاحتلال وتجبر جنوده والمعاناة اليومية لأهالي غزة، لا سيما الفقراء الذين يشكلون الغالبية منهم، ممن يحاصرهم «جيرانهم» اليهود ويحرمونهم من أبسط حقوق العيش. وتكفي المشاهد العديدة للجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح الذي يفرض وجوده على زوجة جعفر، في بيتها وأثناء غياب زوجها، لكي يتفرج معها على مسلسل برازيلي مدبلج ويحاول أن يبادلها الكلام في حين تتجاهل هي وجوده وتلتزم الصمت المطبق. وبهذا المعنى، فإن فيلم سيلفان استيبان فيلم يحمل رسالة سياسية تدعو للسلام، حسب المفهوم الأوروبي للنزاع، ويكون من المجحف أن نطالبه بأن يكون فيلما «فلسطينيا» بالكامل.

بقي أن نشير إلى أن المخرج هو صحافي وروائي له عدة كتب حول الصحراء، وهذا هو فيلمه السينمائي الأول، وقد صور فيلمه في الأرض المحتلة وجاء له بممثلين من اليهود والعرب، يتقدمهم ساسون غباي، الممثل العراقي الأصل الذي قام بدور جعفر.