الكلاش.. حذاء كردي يعود تاريخه إلى زرادشت

ما يميزه أنه لا يتكون من فردتين يمنى ويسرى بل يمكن انتعاله كيفما شئت

الكلاش الحذاء الكردي تحتاج صناعته إلى مهارة فائقة وفي الإطار أحد الصناع يعرض كيفية التصنيع («الشرق الأوسط»)
TT

في الستينات عندما خاض الشعب الكردي ثورته المسلحة ضد الحكومات العراقية، كان الزي الكردي التقليدي هو الزي الرسمي لمقاتلي البيشمركة، في حين أن الشباب في المدن بدأوا في تلك الفترة يتجهون شيئا فشيئا إلى تقليد الملابس الغربية، المعروفة بزي «الأفندية»، وهو السترة والبنطلون. لكن السمة المميزة لمقاتلي الجبل بقيت ذلك الزي الكردي، مضافا إليه حذاء يعرف بالـ«كلاش» ذي اللون الأبيض، الذي كان يميز البيشمركة وسكان الجبل أيضا عن شباب المدينة، حيث إن هذا الحذاء كان خاصا بخوض الجبال منذ قديم الزمان وحتى الآن. ولذلك كان يشكل جزءا مكملا لعدة كل من يلتحق بقوات البيشمركة في الجبال.

هذه الصناعة التي راجت خلال قرون عديدة وزاحمتها، خصوصا في المناطق الكردية خلال العقود الأخيرة، أحذية «باتا» التي دخلت أسواق كردستان منتصف القرن الماضي. وتزاحمه اليوم أحذية إيطالية وتركية وصينية وإيرانية. ولكن كل تلك الأحذية الجديدة لم تستطع أن تزيح الكلاش الكردي عن مكانه فوق أرفف باعة الأحذية في مدن كردستان.

هناك مثل كردي يطلق على من يحرص على الإتقان والإجادة الكاملة في عمله، حيث يقول «الغجري يخيط الكلاش لغيره، فكيف به إذا خاطه لنفسه». ومدلول المثل أنه سوف يصرف كل خبرته وفنونه وإتقانه للصنعة في خيط الحذاء لنفسه. ويطلق هذا المثل على أساس أن الغجر متخصصون في صناعة الكلاش الكردي. لكن آوات هورامي الذي يصنع ويبيع الكلاش أمام قلعة أربيل، صحح هذه المعلومة الخاطئة بالقول «موطن هذه الصناعة منذ الأزل ولحد الآن هو منطقة هورامان التي تربط بين كردستان العراق وإيران، أمهر الأسطوات مستقرون هناك، وأنا جئت من هناك واستقررت في أربيل منذ 17 سنة، وأزاول هذه المهنة التي ما زال عليه الطلب الدائم».

ويقول هورامي: «أغلب الظن أن هذه الصناعة تعود إلى زمن زرادشت الحكيم، توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد طوال حقب التاريخ كما حدثني أهلي في هورمان. وليست هناك دراسات معينة لتحديد تاريخ ظهورها كصناعة محلية، ولكن استمرارها وعلى مدى القرون الماضية يؤكد قدمها». وأوضح «في القرون والعقود السابقة لم نكن نحن أهل القرى نحتاج إلى أي شيء من المدينة. كل أثاث البيت والأدوات المنزلية والزراعية وكل مستلزمات حياتنا المعيشية ننتجها بأنفسنا، وتتوافر موادها الأساسية في قرانا من خيرات الأرض ومما تجود به الحيوانات. وباستثناء السكر والشاي لم نكن بحاجة لأي شيء من المدينة، لذلك حتى الملابس التي كنا نرتديها مصنوعة من خيوط شعر الحيوانات، ومنها هذا الحذاء الكردي المميز».

ويتحدث آوات هورامي عن كيفية صناعة هذا الحذاء قائلا: «صناعة الحذاء يدوية، وموادها الأساسية هي بعض خيوط شعر الماعز وجلود معينة من الأبقار والعجول، وأنواع من الغراء المأخوذ من الأشجار. وتحتاج صناعته إلى مهارة فائقة؛ لأن هناك الآلاف من الخيوط التي تتشابك أثناء الصناعة بقصد إعطاء الحذاء الصلابة والتماسك المطلوبين، وما يميز هذا النوع من الأحذية أنه لا يتكون من فردتين يمنى ويسرى، بل يمكن انتعاله كيفما شئت، لأنهما يصنعان بقالب واحد». وحول مدة صناعة الحذاء، يقول «تستغرق صناعة زوج من الكلاش حسب الطلب بحدود 25 يوما، ويعمل عليه عدد كبير من الأسطوات والصناع، لذلك يكون سعره مرتفعا لأنه يأخذ وقتا كبيرا في صناعته. ولكونه لا يصنع في المعامل بالجملة، بل هو صناعة يدوية بحتة تحتاج إلى الدقة والمهارة والأستاذية».

وبسؤاله عن كيفية التعرف على جودة هذه الصناعة، قال «هناك تجربة بسيطة لمن يريد أن يشتري هذا النوع من الحذاء ليعرف جودة الصنع ومهارة الصانع، وهي بفك خيط واحد من الحذاء، فإذا انفكت بقية الخيوط بشكل متتابع ولو بخيطين فهذا يدل على عدم الإتقان في الصنعة، أما إذا انفك خيط واحد فهذا دليل مؤكد على جودة الصناعة».

وبحسب هورامي، عادة ما يكون النعل مميزا بألوان مختلفة، وغالبا ما يكون باللونين الأزرق والأحمر، ويكون النعل من أصلب المواد. وأشار إلى «أن هناك مقطعا جلديا يؤخذ من قضيب العجول الذي يمتاز بشدة صلابته ليربط به النعل من تحت لكي يستطيع الحذاء مقاومة صخور الجبال». ويضيف الكلاش «هو حذاء جبلي لا يمكن استخدامه للمشي فوق الشوارع المسفلتة في شوارع المدن، فكلما دخلت الأحجار الصغيرة ما بين الخطوط المنسوجة زادت النعل صلابة وقساوة، لذالك فهو الحذاء الجبلي بامتياز».

وعن نوعية المشترين، قال هورامي الذي أكد أن تجارته رائجة على عكس الأزياء الكردية الشعبية الأخرى التي بدأت تنحسر تجارتها أمام هجمات الموضة، «المشترون يأتون من مختلف الأعمار وفئات المجتمع. ولكن باختلاف الرغبة. فالشاب يشتري الحذاء للتباهي في المناسبات القومية، وخصوصا في أعياد نوروز التي يكثر فيها الشباب من ارتداء الزي الفلكلوري، وهناك الفلاحون وسكان القرى الذين يفضلونه على الحذاء التقليدي الذي لا يستطيع مقاومة طبيعة الجبال وصخورها».

ويلفت هورامي إلى الفوائد الصحية لهذا الحذاء الكردي المميز، قائلا «إن هذا الحذاء صحي جدا. فهو يصنع على شكل فلات بنعل منبسط، ولذلك فهو مفيد لمرضى الفقرات، وحتى إنه يحافظ على ضغط الدم ومرض السكر، ويحفظ توازن الإنسان. والأهم من كل ذلك أن هذا الحذاء لا يتعفن مطلقا حتى لو انتعله الشخص لعدة شهور، ولذلك يأتي الزوار الأوروبيون إلى محلاتنا لشرائه».

الشاب آمانج محمد كان أحد الداخلين إلى المحل أثناء حديثنا مع صاحبه. وكان يحمل زوجا من الكلاش جديدا بعض الشيء، يريد أن يعدله ويصبغه له. فجرى تفاوض بينهما، حيث أبلغ الشاب الأسطى آوات بأن الحذاء اشتراه منذ فترة وانتعله لبعض الوقت، فأصبح يؤذي أصابع قدميه. فأخذ منه الأسطى الحذاء وطمأنه بأن يرجع إليه بعد ربع ساعة ليصلحها له وبمبلغ زهيد، قائلا له «يبدو أنك تنتعل الكلاش قليلا، وتعودت انتعال الحذاء الإفرنجي، وإلا فإن الكلاش لا يمكن أن يؤذي الأصابع لأنه مصنوع من خطوط مرنة تتمدد وتتقلص حسب حجم القدم».

وينتشر العديد من صباغي (مبيضي) الكلاش في شوارع مدينة أربيل، الذين يستخدمون الشامبوات ومواد كيماوية مبيضة لإعادة صبغ هذا الحذاء، لكن الناس عادة ما يذهبون إلى محلات التصنيع والأسطوات المعروفين لإعادة صبغه بالمواد الأصلية المأخوذة من الأشجار والنباتات الطبيعية.

الغريب أن الكلاش الكردي قد يكون هو المنتج المحلي الوحيد الذي لا وجود لمثيله الصيني أو المقلد من بلد آخر في الأسواق. وبسؤال الأسطى آوات هورامي عما إذا كانت الصين التي أصبحت تحتكر الصناعات التقليدية في العالم قد فكرت في صنع هذا النوع من الحذاء وإعادة تصديره إلى كردستان، قال «ليست الصين، بل اليابان بجلالة قدرها لم تستطع أن تصنع حذاء مماثلا لما يصنعه الأسطى محمود في هورامان».