جان كوكتو الشاعر والمسرحي الفرنسي.. يرفع مدينة بأعماله

مونتو الفرنسية تكرم الفنان بمجموعة يملكها صانع الساعات سيرفان فوندرمان

من اعمال الفنان
TT

لم ينتمِ جان كوكتو، الشاعر والمسرحي الفرنسي، إلى مدينة مونتو على ساحل المتوسط، حتى بالولادة. مع ذلك، فالمدينة تكرمه من خلال فتح متحف يضم 1763 قطعة فنية له هي ثمرة سنوات طويلة من المتابعة، جمعها سيرفان فوندرمان طوال حياته. وهي موجودة اليوم بفضل تبرع فوندرمان بمجموعته للمدينة في عام 2007، أي قبل وفاته بعام واحد. تم وضع حجر الأساس لبناء المتحف في عام 2008 ليعرف باسم كوكتو، وتعتبر المجموعة الأبرز على مستوى العالم وتقدر قيمتها بثمانية ملايين يورو.

لكن جان كوكتو، الذي لم يولد في المدينة، عرفها منذ الخمسينات، ففي عام 1950 جاء كوكتو بناء على دعوة قدمت له لحضور مهرجان الموسيقى الكلاسيكية، ثم عاد إليها للمشاركة في البينالي العالمي للرسم الذي عقد بالمدينة. في ذلك الزمان، بعد أن أنهى كوكتو تزيين واحدة من الكنائس الصغيرة في مدينة فرنسا البحرية، طلب رئيس بلدية مونتو، السيد بالميرو، من جان كوكتو أن يزين قاعة الاحتفالات بعقد الزواج في البلدية برسوماته. وهو ما فعله كوكتو دون أن يتقاضى أي أجر، بل عمل على ترك هذا الأثر هدية شخصية للمدينة التي كرمته بمنحه لقب «مواطن شرف»، على عادة ما تفعله المدن في تكريم أشخاص بعينهم.

المتحف الحالي الذي افتتح رسميا هذا الشهر بفضل كرم كبير من سيرفان فوندرمان، صانع الساعات الشهير، الذي رحل قبل حتى أن يحضر حفل وضع حجر الأساس لهذا المتحف، الذي يمثل جزءا من مجموعته الفنية التي بقي جزؤها الأول في الولايات المتحدة، هو متحف يمثل ندرة على مستوى المتاحف في العالم وفي فرنسا بشكل خاص. صحيح أن لجان كوكتو متحفا باسمه ومؤسسة في مسقط رأسه، لكن هذا المتحف يحتوي على مجموعة هائلة من القطع التي تركها كوكتو وتركها أصدقاء كوكتو عنه، مثل اللوحة الشخصية التي رسمها مودلياني في عام 1919، إلى جانب كل ما يتعلق بهذا الفنان صاحب الحضور الاستثنائي في الثقافة الفرنسية في القرن العشرين.

بيد أن المتحف الذي يتتبع آثار جان كوكتو، يحكي في جانب آخر قصة فوندرمان مع الشغف بالفن. فوندرمان الطفل الذي ولد في بلجيكا من أسرة يهودية فقيرة وهرب أثناء الحرب إلى فرنسا ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية، تحول بعد لقاء جمعه ألدو غوتشي إلى واحد من عمالقة صناع الساعات على مستوى العالم. وبعد أن كان شريكا أساسيا في غوتشي للساعات قام بامتلاك عدد من العلامات التجارية الشهيرة، مثل «كوروم» وغيرها. تفيد النبذة الموجزة عنه بأن ساعات «غوتشي» التي صممها فوندرمان باعت ملايين النسخ حول العالم، وقد بنى ثروة هائلة من صناعة الساعات. لكن الشغف بالفن لم يأت بسبب الوفرة المالية، كان فوندرمان، أيام شبابه الأول يضحي براتبه كاملا من أجل شراء عمل فني، لقد بدأ هذا الرجل بجمع الفنون قبل أن يصل إلى العشرين من عمره، وبالتأكيد فقد ساعدته ظروف ذلك الزمان على اقتناء أعمال مهمة جدا، حين لم تكن أسعار الأعمال الفنية كما هي عليه اليوم، كما أن الفنانين الذين اقتنى من أعمالهم لم تكن أسعار أعمالهم كما هي عليه الحال اليوم مع مودلياني أو بيكاسو أو مونيه أو جان كوكتو وغيرهم.

لكن، والحال هذا، ثمة علاقة خاصة جمعت بين فوندرمان وكوكتو، علاقة لم يتخللها أي لقاء ولو كان عابرا، فقط كان فوندرمان معجبا بنتاج كوكتو، مما جعله يتتبع أثره في كل شيء، سواء من الرسومات أو الكتب أو المسرحيات، وهو لو يوفر من مقتنياته حتى الإعلانات التي كانت لها علاقة بنشاط من أنشطة كوكتو.

والحق أن هذا الشغف، بفنان أو كاتب معين، لا نجده كثيرا بين هواة جمع الأعمال الفنية أو الأعمال ذات القيمة الثقافية والمعنوية. ففوندرمان كان بإمكانه مثلا من بين مجمل الأعمال اختيار اللوحات التي رسمها كوكتو، لكنه لم يكتف بذلك بل ذهب إلى جمع حتى قصاصة ورقة هي إعلان لعمل مسرحي كان كوكتو قد خربش عليها بقلمه قليلا. ما قاده إلى شرائها والاحتفاظ بها هو الشغف ولا شيء غير الشغف. وربما في مكان ما، الشغف نفسه هو ما جعله يتبرع بنصف مجموعته لمتحف المدينة، التي تعتز بعلاقتها مع كوكتو. في حادثة نادرة في تاريخ المجموعات الفنية المملوكة لأشخاص.

في جانب آخر، يفتح المتحف الباب واسعا على النتاج الكبير الذي تركه كوكتو، فالمعرض الحالي يضم 1763 قطعة هي تقريبا نصف ما جمعه فوندرمان عن كوكتو والنصف الآخر في المتحف الخاص بفوندرمان في الولايات المتحدة، إضافة إلى متحف مؤسسة جان كوكتو والمتحف الخاص الذي أقيم له منذ سنوات في مسقط رأسه شمال فرنسا. فإن أحصينا نتاج كوكتو بشكل حسابي بسيط نخرج بنتيجة مهولة حقا بالنسبة لنتاج فرد مثقف تعددت اهتماماته. ومن بين أبناء جيله، لا يمكن العثور على شخص آخر كان لديه نفس الطاقة الإنتاجية. وهو الأمر الذي ميزه عن غيره أيضا، فالمعروف أن التعدد، خاصة في مجال الإنتاج الإبداعي، يضر في أحيان كثيرة جنسا إبداعيا على حساب جنس آخر، لكن الأمر في حالة كوكتو كان مختلفا تماما، فهو في الشعر مثله في الرسم وكذلك في المسرح وهكذا.

قال كوكتو: «القبر الحقيقي للأموات هو القلب الحي»، مقولة صادقة من هذا الشاعر والفنان الذي لا يزال يعيش، لكن في قلوب كثيرة.