المدرسة التعبيرية الألمانية «داي بروك» في أنقى إشراقاتها اللونية

لأول مرة في فرنسا منذ تسعين عاما

كيرشنر
TT

لو لم تحكم النازية ألمانيا لكانت الحركة الفنية فيها تطورت لدرجة لن يعود من الممكن فيها سوى اعتبار ألمانيا المرجعية الفنية الكبرى في العالم للقرن العشرين. هذا الانطباع الذي يخرج به كل من يزور المعرض، الذي يقيمه متحف غرونوبل حاليا، حول مجموعة داي بروك (الجسر) التي أسسها في برلين مجموعة من الفنانين في منتصف عام 1905.

عرفت ألمانيا، في أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حركات فنية كان لها سبق الريادة على مستوى العالم. ومنها الحركة التعبيرية، التي شملت مختلف أنواع الفنون الإبداعية من رسم ومسرح وموسيقى وأدب.

المعرض الحالي لرواد داي بروك، وهم إميل نولد وإريك هوكل وكارل شميث ترويلوف وفريتز بلايل وأرنست لودفيغ كيرشنر، الذي يتم لأول مرة في فرنسا منذ تسعين عاما، يوضح، وإن بعد مضي قرن كامل، على حجم الحراك الذي عاشته ألمانيا ما قبل النازية، ويدل على مكامن فنية مشرقة أسهمت السياسات النازية في تدمير نموها في بلدها الأم. ولا ندري حقيقة، لماذا علاقة الديكتاتوريات سيئة على الدوام مع الفن ورواده؟

بيد أن المعرض الجماعي الذي عرض مائة وعشرين عملا لهؤلاء الفنانين في منتصف عام 1905، والتظاهرة الفنية الكبرى التي أحدثتها هذه الحركة في معرضها الباريسي في عام 1925 والمعرض الحالي في غرونوبل، يحوّلان الفترة الزمنية التي امتدت ما يزيد على القرن إلى ما يشبه الحلم، فالأعمال الموجودة هنا، وجميعها عاصرت في ألمانيا خلال حربين عالميتين، ونجت من التلف والتدمير والضياع، تقول ما لا يمكن أن يقال سوى عن طريق صراخ. فهي، إن أردنا مقارنتها بقامعها النازي، عمرت أطول بكثير منه، وهي إلى جانب ذلك، اليوم، مثار فخر لألمانيا نفسها، في حين أنها وصمة العار الكبيرة التي لا يمكن محوها بقدر ما يمكن التنكر لها والهرب منها. حفلت الفترة التي نتحدث عنها بالكثير من الفنانين والمجموعات، وإن كان نصيب فان غوغ وكازانتز اكيس من الشهرة فاق شهرة كل المجموعات الفنية التي انتمت في أعمالها إلى التعبيرية، بسبب غير مباشر هو الجغرافيا، فإن التأثير الذي تركته هذه المجموعات لا يختلف عليه رأيان. ففي حين كان بعض الفنانين في فرنسا، في ذلك الوقت، يفضلون العمل وحدهم خارج أطر ومجموعات، فإن الريادة في تشكيل مجموعات فنية رعت مذاهب ومدارس وكرستها على مستوى العالم، يعود للألمان. فالعقلية الألمانية أسهمت بشكل فعال في هذا، خاصة إن اعتبرنا أن حب الألمان للعمل الجماعي والإنتاج يفوق حبهم لأي شيء آخر.

غير أن المعرض الذي يعرض أعمالا نادرا ما يمكن الاطلاع عليها مباشرة، يعيد إلى الأذهان حجم الحراك الفني والأدبي الذي عاشته ألمانيا بدايات القرن العشرين، خصوصا، إن أخذنا في الاعتبار، المجموعات الفنية التي تكتل ضمنها الفنانون وأسسوا من خلالها محترفات فنية وأدبية على شاكلة السوريالية والدادائية في فرنسا. فقد حفلت الفترة الممتدة من أواسط القرن التاسع عشر وحتى ما قبل الحرب الهتلرية على العالم، بنشوء مجموعات وتكتلات ثقافية وفكرية وفنية، أسهمت، بفعالية في وضع الأسس الفكرية للثقافة على مستوى العالم. ولعل مجموعة داي بروك (الجسر) واحدة من أهم هذه المجموعات.

الجانب الملهم في هذا المعرض، خاصة أن اللوحات جميعا، ككتلة فنية متراصة وتنتمي للمدرسة ذاتها، تشير، ولو بصعوبة أحيانا، إلى البصمة الخاصة لكل فنان. فغير المختص من رواد هذا المعرض، لا يمكنه اكتشاف الفوارق الدقيقة في اللوحة بين كيرشنر وترويلوف أو بين الاثنين وهوكل. لقد كان التماهي في تشرب تيمات المدرسة التعبيرية، تقريبا، واحدا، باستثناءات طفيفة تتعلق بالخطوط والألوان. والملاحظ من خلال غالبية اللوحات المعروضة، أن الهموم تقريبا مشتركة أيضا. إن هذا المعرض هو فرصة نادرة، حقا، إذ يمكن زائره من الاطلاع على واحدة من أرقى التجارب الفنية في القرن العشرين ويعرض أمامه مباشرة الكيفية الحقيقية التي نشأت على أساسها هذه المجموعات الفنية في بدايات القرن، واستحالة هذا الأمر حاليا. باستثناء هوكل، الذي يتفرد بأعمال أقرب إلى السوريالية منه إلى التعبيرية، يمكن القول إن إميل نولد الأكثر تميزا لناحية ألوانه القاتمة والمركبة، إلى جانب إعطائها انطباعا أوليا بأنها ليست زيتا، بل هي لكثرة الاشتغال عليها، تبدو أقرب إلى الألوان المائية. وهذا يعود إلى المهنية العالية بالاشتغال على عنصر اللون في المدرسة الانطباعية. وهو ما يفسر، ولو مجازا، تأخر نولد في الانتماء إلى المجموعة، فقد كان الأخير الذي انتمى إلى مجموعة داي بروك، وكان لهذا الدخول تأثيره الكبيرة على فرض خصائص التميز بين أفراد المدرسة الواحدة.

قليلة هي المرات التي تعرض فيها المتاحف أعمالا لمجموعات كاملة على هذا النحو. من هنا، يمكن التأكيد على أن هذا المعرض فرصة نادرة، مما يحملنا على توجيه تحية لهذا المتحف الذي تأسس في عام 1923، ومنذ ذلك الحين يعمل على الإضاءة على تجارب أغنت الفن التشكيلي على مستوى العالم.