البهارات والمطبخ العربي يغلفان أجواء متحف لندني

الطاهية أنيسة الحلو تشارك في فعاليات مهرجان نور للثقافة العربية

TT

عند دخولك قاعة متحف «ليتون هاوس» التي تتميز بالإضاءة الطبيعية وذات السقف المرتفع والجدران المزينة بالرسوم الإسلامية، ستجد دفئا منبعثا من رائحة التوابل التي تحيط بالنساء الفضوليات الجالسات على نحو يشكل شبه دائرة وتتوجه أنوفهن جميعا نحو البرطمانات التي تمسكها الطاهية أنيسة الحلو. لم يتعرفن على الحلو فقط من سترة الطاهي التي ترتديها، بل من شعرها النابض بالحياة وملامحها الدقيقة وابتسامتها الدافئة، وهو ما عرفنه من قراءة مدونتها الشهيرة عن الطعام والمقالات النقدية التي لا حصر لها عن كتب الطهي والمقابلات. تمر أنيسة بجانب كل سيدة لتمنحها نفحة من خليط التوابل الذي تجمعن ليتحدثن عنه. امتلأت منضدتها بالمساحيق والبذور والعصي من أجل جلسة اليوم التي تعد من فعاليات مهرجان نور للثقافة العربية. تصطف برطمانات تحتوي على مختلف الألوان من البيج والبني والبرتقالي على طرف المنضدة، بينما وضعت عصي القرفة التي في حجم عظام الفخذ في الركن، بينما تقبع قطرات من خلاصة «سبانيش فلاي» ذات اللون الأخضر النادر داخل كيس بلاستيكي. وتوضح قائلة: «إنها سامة» ونادرة أيضا، ويبدو أنها هي من أودت بالماركيز دي ساد إلى السجن.

تذكرنا جلسة اليوم بمطبخ العمة القديم، حيث تجتمع جميع النساء اللائي يردن تعلم وتعليم واستنشاق كل خليط ومقارنة بعضه ببعض. وساعدت طريقة الحلو الجذابة وحبها الحقيقي لفنون وثقافات الطهي على انتشار عدوى اهتمامها بين الحاضرات. وإضافة إلى كونها طاهية ومستشارة وكاتبة ومعلمة، هي أيضا مؤرخة، حيث توثق وتبحث في الطرق التقليدية لإعداد وتقديم الوصفات. وتتحدث الحلو اليوم أمام 20 سيدة عن خلطات توابل متنوعة مثل «رأس الحانوت» من المغرب، التي تتكون من نحو 30 نوعا من أنواع البهارات مثل الهال والقرنفل والقرفة والزنجبيل. وتقدم لهن أيضا خليطا من لبنان وسوريا يتكون من الفلفل الأبيض والبهار الحلو (فلفل جامايكا) وجوزة الطيب والكزبرة. ويبدو خليط البهارات التونسي أبسط وأكثر رومانسية، حيث يتكون من القرفة وبراعم الورد. وهناك أيضا بعض الخلطات التي تشتهر بها شبه الجزيرة العربية والتي توضح مدى التأثر بالهند. ومن ضمن مكونات تلك الخلطات الفلفل المجفف والكركم والكمون. من المواضيع الأساسية في هذا النقاش عدم وجود طريقة موحدة لإعداد هذه الخلطات، حيث تعتمد النسب بين المكونات في كل خليط منهم على ذوق الشخص الذي يعدها.

أكثر ما يجذب الناس هو اهتمام الحلو بثقافة الطعام وقيمته الاجتماعية. تعج القاعة بشغف وحديث النساء، الشابات منهن والعجائز، المقبلات من مختلف البلدان، مثل المغرب وإريتريا والبحرين وتركيا والهند، مما يوضح التقدير الكبير لعمل الحلو. وكان أول كتاب لها الذي حمل عنوان «المطبخ اللبناني» بمثابة طريقة للحفاظ على وصفات والدتها. وترى الحلو، التي تنتمي إلى دولة أكثر سكانها في المهجر وباعدت بينهم المسافات، أن وصفات الأسرة وأصناف الطعام التقليدية طريقة لإعادة التواصل بين الناس. ودفعها خوفها من فقدان هذه الوصفات إلى تدوينها في كتاب. وتقول: «كان الطعام جانبا أساسيا من جوانب حياتنا وكنا نرى إعداد الأطعمة في منزلنا أو نراها تباع في الشارع». وشأنها شأن الكثير من اللبنانيين، رحلت الحلو عن مسقط رأسها منذ عدة سنوات، لكنها تشعر أنها محظوظة لأنها عاشت فترة طويلة بها جعلتها تمر بتلك التجارب. تزخر كتابتها بذكريات الطفولة في بيروت، حيث كان الباعة الجائلون ينادون على بضاعتهم في الشوارع. وتتذكر كم كان من الصعب الحصول على الطعام، حيث كان يأتي زيت الزيتون من قرية عمها بكميات تكفي عاما كاملا، وكم كانت العائلة بأكملها تقضي يوما على البحر حاملين معهم مختلف صنوف الطعام، وكم تتوق إلى أيام إعداد أمها وجدتها للكبة وصوت دق اللحم.

ومع تطور عملها في توثيق أصناف الطعام التقليدية، ازداد اهتمامها بالجغرافيا. مع الناس والطعام والثقافة، خاصة في المناطق المطلة على البحر المتوسط، يأتي السفر والهجرة، وتقول: «من المثير معرفة التمازج بين الثقافات». وتمتد خبرتها حاليا في أنحاء المنطقة إلى المغرب وتركيا والخليج ولبنان وسوريا.

من ضمن التوابل التي تضمنتها المناقشة خليط «رأس الحانوت»، وتقول عنه: «إنه خليط مميز وقيم ومعقد جدا». وتقارن الحلو بين شراء الخليط من سوق مراكش ومن متاجر لندن، حيث تقول إن هناك احتمالا أن يتم الخلط بينه وبين توابل شائعة هنا أو زيادة نسبة الكركم أو الكمون به. ويعد خليط «رأس الحانوت» من التوابل الرائجة في أوروبا هذه الأيام، حيث يستخدمها الناس في طهي الكثير من الأصناف، بينما لا يستخدم في المغرب بكثرة. ونصحت قراء مدونتها بإضافة الخليط إلى أصناف مثل الطواجن والكفتة. وبالانتقال إلى تونس، تعرض الحلو خليط البهارات المكون من براعم الورد والقرفة، وتوضح قائلة: «إنه خليط بسيط يستخدم في الخبز والكسكسي والطاجن، ويضم أنواعا مختلفة من الورد ويستخدم لأغراض مختلفة». وتوضح الرابط بين استخدام التوابل وفائدتها الطبية، مشيرة إلى استخدام زهرة لديها تأثير مسهل للأمعاء في علاج اضطرابات المعدة.

وجدت الحلو بالمصادفة هناك صديقة لها على معرفة بالمطبخ الإيراني، وطلبت منها بطريقتها الودودة المحببة أن توضح لها رأيها في آخر خليط قدمته للحضور، وهو خليط «أدوية» الإيراني المكون من الفستق الحلبي والزعفران والسكر. وتفضل الحلو سكر عصير القيقب لزيادة قوة النكهة، ويميز هذا الخليط منطقة الخليج العربي عن المناطق الوسطى، ويستخدم في إعداد أصناف من الوجبات الشهية والوجبات الخفيفة. مع انتهاء المحاضرة، تجيب الحلو عن أسئلة وتأخذ نصائح من السيدات اللائي حضرن، وكعاشقة للنكهات تقوم بمهمة استكشاف مذاق أو خليط جديد ومجموعات ممتزجة من الجذور الجديدة والسيقان القديمة، تتبادل الوعود والأفكار مع الجميع. ويبدو الأمر كأن هؤلاء النسوة بدأن بالفعل الطهي معا، حيث يغادرن القاعة بأفكار جديدة وحيرة وابتهاج بعد ساعة من استنشاق روائح التوابل التي لا تزال تملأ هواء القاعة.