مبنى مخابرات القذافي يتحول إلى متحف

خطوة أولى لليبيين لمحاربة «الإرث السام»الذي ما زال يلوح في أفق هذا البلد

الرسوم الفنية الموجودة في المتحف قد تكون حرفية وخالية من الرؤية الفنية، مثل الرسوم الكاريكاتيرية للقذافي ومشاهد سقوط الصواريخ إلا أنها ستساعد على إزالة هالة الغموض التي كانت تحيط بالديكتاتور في أعين الليبيين العاديين («نيويورك تايمز»)
TT

الفن يمكنه أن يكون أفضل وسيلة للانتقام في بلد تم خنق الإبداع فيه من أجل ضمان الغلبة لرجل واحد فقط. أما داخل أحد المباني المدمرة الذي كان يأوي في أحد الأيام إحدى وحدات الاستخبارات التابعة لنظام القذافي لم يجف طلاء اللوحة الجدارية الجديدة بعد، التي تصور شجرة تتغذى جذورها على دم المقاتلين الثوار الذين سقطوا قتلى. وكان المبنى قد دمر نصفه في القتال الذي كان دائرا بين قوات العقيد معمر القذافي والثوار الذين أطاحوا به، وهو الوضع الذي يأمل بلقاسم غاردا، الفنان الذي قام برسم اللوحة، في أن يظل المبنى عليه.

ولم يفكر مهندس البترول النحيل القوى من قبل قط في نفسه كفنان، فأقصى ما كان يفعله في أوقات فراغه هو أن يشخبط قليلا بالفرشاة. ولكن غاردا، 47 عاما، قد نجح اليوم في تحويل موقعا كان في السابق رمزا للترهيب ورمزا لقبضة القذافي الحديدية على ليبيا إلى «بيت الحرية»، المتحف المخصص لإحياء ذكرى الحرب الأهلية في ليبيا.

ويأتي أفواج من سكان هذه المدينة الجبلية الواقعة في غرب ليبيا لرؤية الصورة التي صنعها غاردا للقذافي في رسومه، ويكون في صحبتهم في كثير من الأحيان زوار من خارج المدينة، حيث أخبرني غاردا قائلا: «على الرغم من أن هذا المكان كان مجهولا في ظل حكم القذافي، إلا أنه قد أصبح الآن مكانا للتعلم والتعبير عن أنفسنا».

ويستطيع الناس في «بيت الحرية» خلق أعمالهم الفنية الخاصة بهم في غرفة رسم الأطفال، حيث تتوفر الدهانات والفرش وتغطى الصور الجدران. وقد تبرع عدة فنانين آخرين ببعض القطع الفنية للمتحف، ولكن أغلب الأعمال الفنية الموجودة هي من صنع غاردا.

ويعد مشروع غاردا بمثابة خطوة أولى لليبيين نحو استخدام مراكز القوة الخاصة بالديكتاتور السابق لمحاربة الإرث السام الذي ما زال يلوح في أفق هذا البلد الصحراوي. وعلى الرغم من أن الرسوم الفنية الموجودة في المتحف قد تكون حرفية وخالية من الرؤية الفنية، مثل الرسوم الكاريكاتيرية للقذافي، ومشاهد سقوط الصواريخ، فإنها ستساعد على إزالة هالة الغموض التي كانت تحيط بالديكتاتور في أعين الليبيين العاديين، وتجعلهم يطالبون بمستقبل أفضل، فلم يكن بإمكان أحد قبل سقوط القذافي مجرد التوقف بالقرب من المبنى دون إثارة الشكوك، ولكن الناس بإمكانهم الآن التجول في المتحف والمساهمة في مشروع غاردا.

ويبدو غاردا أثناء اصطحابه لي في جولة تفقدية في المكان أقرب في مظهره للمقاتلين الثوار منه للفنانين، حيث يرتدي سترة مموهة بنية اللون فوق بنطال من الجينز، ولا يتوقف عن تدخين السجائر. وتحتوي الغرفة الأولى للمتحف على خليط من الأعمال الفنية الملونة غير الاحترافية، حيث توضح ظلال الشخصيات والبيوت المربعة الأشكال والخطوط العنيفة مشاهد القتال، محاطة بإطار من طوابير الأغلفة الفارغة للصواريخ وقذائف الهاون والرصاص المضاد للطائرات، المفروشة على الأرض بامتداد الجدران.

ويوضح غاردا، عندما دخل المبنى لأول مرة في يونيو (حزيران)، أن المبنى كان قد لحقت به أضرار بالغة من جراء القتال، ولكنه قام بدلا من إصلاحه باستغلال أنماط التدمير التي كانت قائمة بالفعل، وجعلها جزءا من فنه، حيث قام على سبيل المثال بتحويل ثقب في الجدار، نتج عن إطلاق الصواريخ، إلى صورة جانبية لرأس القذافي، بينما رسم أمام فمه الفقاعة الكرتونية الشهيرة التي تحتوي على كلام الشخصيات في القصص المصورة، والتي احتوت هذه المرة على كلمات خطاب «زنقة زنقة» الشهير للعقيد القذافي، الذي ألقاه في بداية الثورة وتعهد فيه بمطاردة المتمردين في كل مكان «شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة».

وقد قام غاردا بقلب كل رمز لقوة القذافي وكل الدعاية التي كانت له ضده، حيث رسم غاردا على سبيل المثال القذافي في شكل فأر، لأن القذافي كان قد نعت الثوار بالفئران كما رسم القذافي وأبناءه؛ سيف الإسلام وعبد الله السنوسي، رئيس الاستخبارات، وهم يسرقون النفط ويشربون الدم بينما هم يجلسون على شبكة من خيوط العنكبوت، التي ترمز إلى شبكات المحسوبية التي كان القذافي يستخدمها للحفاظ على سيطرته على البلاد، وقد أحاط غاردا الشبكة بالمشكلات التي كانت تحاصر البلاد إبان حكم القذافي، والتي تتمثل في التخريب والتدمير وفيروس نقص المناعة البشرية وانتهاك الحقوق والسجن والبطالة والثأر والجهل.

وقد نمت فكرة المتحف من لوحة جدارية رسمها غاردا على بوابة المتحف الموجودة أسفلة، حيث يقع المتحف على تلة صغيرة فوق الشارع، وكان ذلك عندما طردت مدينة يفرن جيش القذافي لأول مرة في يونيو (حزيران)، أي قبل شهرين من سقوط طرابلس نفسها، حيث يقول غاردا: «كنت أفكر في البداية في جعله متحفا حربيا أجمع فيه جميع الأسلحة، ولكنني قلت لنفسي: لماذا لا نرسم؟ لماذا لا نخلق شيئا إبداعيا من كل هذا الدمار؟».

وقد شرع غاردا في الرسم بادئا من البوابة، وقرر تحويل المبنى الذي كان مركزا للرعب إلى نصب تذكاري للانتصار، حتى بينما كانت الحرب ما زالت مستعرة، حيث قام برسم خريطة ليبيا على أحد الجدران ورمز لكل مدينة يتم تحريرها بنقطة حمراء. كما قام بصنع طائرات من الورق المقوى لتمثل طائرات حلف الناتو مستخدما قطعا من السلك لتعليقها من السقف.

ويضم المتحف أيضا غرفة لرسوم الأطفال، وغرفة أخرى مكرسة للسجون وغرف التعذيب لتوثيق المقابر الجماعية المحلية التي نتجت عن هذه الحرب، فضلا عن المذابح الأخرى التي ارتكبت في عهد القذافي، مثل المذبحة التي ارتكبت في سجن بوسليم، حيث قتلت قوات القذافي في يوم واحد في عام 1996 نحو 1200 سجين. وهناك أيضا غرفة مخصصة للقتال الذي دار هنا في يفرن.

وما زال غاردا يحصل على راتبه من صاحب عملة السابق لإعالة زوجته وأطفاله السبعة، قد أعطاه المجلس المحلي الانتقالي الحق في أن يفعل ما يحلو له بالمبنى، حيث أصبح الآن مديرا رسميا للعقار. ويأمل غاردا أن يكون هناك في ليبيا الجديدة دعم للثقافة والفنون باعتبارها وسيلة للشفاء والتعبير عن الذات.

* خدمة «نيويورك تايمز»