مكة المكرمة.. رحلة البحث عن «الكيف»

قدسيتها حرمت التدخين داخل أسوارها

أوصدت المقاهي التي اعتاد عليها المدخنون أبوابها في وجوههم واضطرتهم إلى التوجه إلى خارج محيطها («الشرق الأوسط»)
TT

رحلة الكر والفر نحو تدخين «الشيشة بكل أنواعها والسجائر»، أو ما يسميه المكيون جزافا «الكيف»، رحلة مضنية، مجهدة للبدن، ليس في تبغها فقط، بل في السبيل نحو ارتشافها. فالمقاهي التي اعتاد الناس عليها أوصدت أبوابها في وجوههم، وأجبرتهم على حين غرة على التوجه إلى خارج أسوارها.

وكانت أمانة العاصمة المقدسة حذرت ملاك المقاهي الواقعة في منطقة الحرم المكي الشريف من عملية التباطؤ في نقل تلك المقاهي، نحو المناطق التي تخرج جغرافيا عن الأمتار المقدسة، تفعيلا للحملة التوعوية «مكة بلا تدخين». وقال الدكتور أسامة البار، أمين عام العاصمة المقدسة، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن قرار المنع نابع من توجيهات إمارة منطقة مكة في إغلاق المقاهي وجميع المحال التي تباع من خلالها جميع أنواع التبغ، مشيرا إلى أن «مكة المكرمة يجب أن تكون خالية من التدخين، وذلك لما تمثله العاصمة المقدسة من مكانة دينية لدى جميع المسلمين».

رحلة البحث عن «التوباكو» تعتبر في رأي مدخنين في العاصمة المقدسة من أصعب وأرهق الرحلات، حيث تتطلب الخروج إلى طريق جدة أو الطائف من جهة، ومعرفة ودراية ببواطن السوق السوداء التي تغوص فيها جنسيات آسيوية أسهمت بشكل مباشر في توفير السجائر، وعلب «الجراك» (ما يستخدم كـ«توباكو» داخل الشيش)، حتى ولو بأسعار مرتفعة.

«مصائب قوم عند قوم فوائد»، هذه المقولة الشهيرة انطبقت على الاستراحات في مكة، بعد الحملة الكبيرة التي قادتها إمارة مكة المكرمة على منع التدخين داخل حدود الحرم في محاولة منها للمحافظة على «قدسية مكة» وما يلزمه ذلك من منع التدخين بكل صوره داخل حدود العاصمة المقدسة، ليقتنص أصحاب تلك الاستراحات الفرصة ويبادروا برفع أسعار إيجار استراحاتهم التي وصلت إلى سقف عال تجاوز العشرين ألف ريال في السنة الواحدة.

إغلاق المقاهي كان رصاصة الرحمة التي ضربت مرتاديها من الشباب وكبار السن لممارسة شرب الشيشة، والذين يعدون تلك المقاهي المتنفس الوحيد لهم في ظل نقص الأماكن الترفيهية التي جلها، وبحسب ادعائهم، مخصصة للعوائل. وفوجئ ملاك تلك المقاهي بـ«لجان البلديات الفرعية» تداهم مقاهيهم وتصادر الأدوات الموجودة فيها، وتغلقها، مبدين تذمرهم من الإجراء الذي «لم يعهدوه من قبل»، وكانوا يتوقعون تلقي خطابات إنذار يحدد فيها موعد الإقفال.

وطالب ملاك المقاهي المقفلة، أمانة المدينة بإغلاق المقاهي الواقعة على الطريق السريع الذي يربط بين مكة وجدة، التي تقع في حدود الحرم، أسوة بهم، مبدين استغرابهم في استمرار عمل هذه المقاهي حتى الآن، وأن يد لجان البلديات لم تصلها بعد. وخلت المقاهي من منظر الازدحامات التي كانت تشهدها كل ليلة، خصوصا أثناء وقت الذروة الذي يكون عادة عند إذاعة مباريات كرة القدم، وأصبحت خاوية، يتجول في أرجائها العمال الذين أصبحوا يبحثون عن أعمال أخرى لكسب قوت يومهم إلى حين عودة عملهم الأصلي.

بينما عمدت بعض المقاهي بعد عمليات إقفالها إلى فتح أبوابها خلسة لبعض زبائنها المعروفين فقط، حيث يقوم الزبون بالاتصال على هاتف أحد العاملين كي يمكنه من الدخول إلى المقهى، لكن تلك الطريقة لم تعوض أصحاب المقاهي الخسائر المادية التي تعرضوا لها.

ولم يجد مرتادو المقاهي من حل إلا اللجوء إلى طلب التأجير للاستراحات التي كانت في السابق لا تطلب إلا في أوقات المناسبات والأعياد من قبل الأسر، ولكن التدفق الكبير الذي شهدته في الآونة الأخيرة خصوصا منذ بداية العام الماضي، بعد الحملات المكثفة في إغلاق المقاهي، أغرى الكثير من أصحاب الاستراحات بتحويل استراحاتهم إلى أماكن مخصصة لتأجيرها على فئة الشباب، وبأسعار عالية تصل إلى أكثر من 20 ألف ريال سنويا.

وأكد عدد من الشباب الذين اختلفت آراؤهم حول ظاهرة إغلاق المقاهي ومنع بيع التبغ داخل حدود الحرم، أن الاستراحات هي ملاذ أمن يحتويهم هم فقط دون سواهم، يمارسون فيها جميع طقوسهم الترفيهية، مشيرين إلى أن المقاهي كانت تقبع بجوار منازلهم، وأنهم لا يتكبدون عناء الذهاب إليها، والآن أصبحت بعيدة وخارج حدود الحرم، والذهاب إليها أصبح عسيرا ومتعبا، بالإضافة إلى أنهم لا يستطيعون دفع استئجار استراحة نظرا لارتفاع أسعارها، وأنها ليست في متناول أيديهم. وطالب عدد من مرتادي المقاهي بأن تعمل الجهات المسؤولة التي أمرت بإغلاق المقاهي على إيجاد حلول ناجعة في كبح أسعار إيجار الاستراحات لكي يتمكنوا من جعلها بديلا أفضل من المقاهي.

ظاهرة إغلاق المقاهي، وانتشار الاستراحات التي تكدست، دفعت الكثير ممن لديهم أراض فضاء واقعة خارج حدود الحرم وقريبة من مكة المكرمة إلى تسوير أراضيهم وتجهيزها على هيئة استراحات متعددة لا تتجاوز الاستراحة الواحدة سوى غرفة ومطبخ ودورة مياه وساحة صغيرة لا تتجاوز العدة أمتار فقط، لتصبح بعد ذلك مجمعا يضم عدة استراحات يتم تأجيرها للشباب الذين يتدفقون بكثرة كلما تم إغلاق مقهى في مكة.

اقتصاديات وأبعاد كثيرة حملتها ظاهرة إغلاق المقاهي في مكة المكرمة. فبعد عملية التطهير التي قادتها أمانة العاصمة المقدسة، وبتكليف مباشر من إمارة منطقة مكة المكرمة في مداهمة مواقع المقاهي وإغلاق محال التبغ والشيشة، تأثرت المخططات العقارية التي تقع في ضواحي مكة.

ومن الأبعاد الاقتصادية التي أثمرتها ظاهرة إغلاق المقاهي داخل حدود الحرم تنشيط الجانب التجاري في ضواحي مكة، فانتشرت كل المحال التجارية من مولات ومطاعم، وجميع المحال التي تلبي حوائج الأسر، لا سيما أن الكثير من ضواحي مكة المكرمة تنتشر بها المنازل التي تقطنها الكثير من الأسر، التي كانت في السابق تضطر إلى التوجه إلى مكة لشراء مستلزماتها.

هذا الأمر في رأي مراقبين أصبح من الماضي، حيث أسهم انتشار الاستراحات والمقاهي التي تم افتتاحها في جلب توافد بشري كثيف على تلك الضواحي، الأمر الذي شجع المستثمرين من التجار على افتتاح محالهم التجارية في الضواحي، إيمانا منهم بوجود عائد استثماري كبير سيحصلون عليه، جراء الوجود السكاني ومرتادي الاستراحات والمقاهي هناك.

واتخذت بعض الأسر المكية الممارسة لعادة التدخين بالشيشة الحدائق العامة مكانا لتعاطيها، وأفرزت جولة بلدية المسفلة الفرعية عن ضبط عدد من النسوة يدخن الشيشة داخل حديقة الطفل العامة بحي الرصيفة، مخالفات بذلك قرار منع تدخين الشيشة داخل مكة المكرمة، مما ألزم رئيس البلدية بإصدار أوامره بمصادرة الشيش والمعسل وأدوات التدخين التي كانت في حوزة المدخنات أثناء وجودهن بالحديقة.

وتعتزم الأمانة توقيع الجزاء المناسب حسب لائحة الجزاءات بأمانة العاصمة المقدسة على مستثمر الحديقة الذي سمح بدخول الشيش والتدخين داخل الحديقة رغم علمه المسبق بقرار منع التدخين تماما داخل حدود مكة المكرمة، وذلك لما تمثله العاصمة المقدسة من مكانة دينية لدى جميع المسلمين.