مهرجان دبي السينمائي يخترق المسائل الشائكة

في آخر أيامه

الممثلة اللبنانية دارين حمزة قبل حضورها مؤتمرا صحافيا على هامش مهرجان دبي السينمائي (أ.ف.ب)
TT

واحد من الأفلام الأكثر جذبا للجمهور خلال هذه الدورة التي تنتهي مساء اليوم (الأربعاء) بإعلان الجوائز، هو «بيروت بالليل» (أو «فندق بيروت» كما هو عنوانه الأجنبي) لدانييل عربيد. إنها ذات المخرجة التي سبق لها أن قدّمت «معارك حب» سنة 2004 و«رجل ضائع» (2007).

لكن جزءا محددا فقط من الإقبال كان بسبب فيلميها السابقين أو بسبب اسمها كمخرجة لبنانية. السبب الرئيسي كان ما انتشر بين الحاضرين والمتابعين بأن الفيلم «ساخن» بمشاهد عاطفية لا تعرف التورية. مشاهد تقع بين بطلي الفيلم الفرنسي ماثيو (شارل بيرلينغ) واللبنانية دارين حمزة. هو الآتي إلى بيروت كمحام في العلن وربما جاسوس في الباطن، وهي الباحثة عن الحقيقة في حياتها كما في شأنه.

زاد على ذلك، إسداء الرقابة اللبنانية خدمة جليلة، إذ انتشر هنا القرار الذي صدر قبل أيام من أن الأمن العام منع الفيلم من العرض.

تقول في لقائي معها: «أريد أن ألتقي بالأمن العام اللبناني أو بالجهاز الذي منع الفيلم وأسألهم عشرة أسئلة سينمائية. إذا عرفوا كيف يجيبون سأوافق على قرارهم».

لكن المسألة ليست سينمائية، بل اجتماعية وربما سياسية، ومن غير المتوقّع أن يعاد السماح بعرضه إلا إذا وافقت المخرجة على حذف عدد من هذه المشاهد وربما المشهد الذي يتعرّض إلى رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري والذي تردد أنه انتقادي.

الرقابة ليست مشكلة لبنانية فقط، بل هي ملازمة للعمل السينمائي. الفارق الأساسي أن معظم المخرجين المنتمين إلى السينما العربية يقررون سلفا السقف الذي يريدون البقاء تحته في مثل هذه الحالات. وفي المسابقة أيضا، كشأن «بيروت بالليل»، فيلم «جناح الهوى» لعبد الحي العراقي، فيلم مغربي حول قصّة حب بين شاب هو ابن رجل متديّن مع قدر من التزمّت، وامرأة شابّة ومتزوّجة يلتقيها الشاب - الذي افتتح لنفسه محل جزارة - كزبونة، ثم يُقيم معها علاقة بعيدا عن الأعين إلى أن تتطور الأحداث إلى وضع ليس بحسبانه.

هنا كان يستطيع المخرج توخي الفرصة من مشاهد تجمع بين الشاب والمرأة لتقديم تلك المشاهد بالسخونة التي ستثير اهتمام عدد كبير من المشاهدين في بلده كما في أي مهرجان يقصده، لكنه قرر العكس تماما. تلك المشاهد تتم والاثنان بلباسهما الكامل مفضّلا التوقّف عند الحد الذي لا يجرح مشاعر جمهوره والمؤسسات الاجتماعية المختلفة.

لكن إذا كان في إقدام المخرج العراقي خيانة للحقيقة أو الواقع في مثل هذه الحالات، فإن في الذهاب إلى النقيض الكامل تجاوزا للواقع. وفي حين يستطيع المخرج الدفاع عن اختياره على أساس أنه كسينمائي لا يرى سببا للصراحة على هذا النحو، تقول دانييل إنها «مخرجة مستقلّة، أسعى إلى إثارة المسائل المسكوت عنها ولا أؤمن بالرقابة أو القطع على أي فيلم كان حتى ولو كان فيلما رديئا».

* حياة أم

* بعيدا عن هذا السجال، لا يزال بالإمكان الاستمتاع بسينما مشغولة بأحاسيس جميلة يعبّر عنها فيلم «يامو» للمخرج رامي نيحاوي. إنه فيلم تسجيلي في المسابقة يتناول فيه المخرج وضعه الخاص. هو ابن شاب لسوري اسمه مصطفى نيحاوي ورد إلى لبنان وتزوّج من الفتاة المسيحية نوال التي أعجبت بانفتاحه وعلمانيّته وعارضت والديها وتزوّجت منه. رامي هو أحد ثلاثة أولاد لهما (لديه شقيق اسمه ريان وشقيقة اسمها ريما)، لكن الوالد بعد سنوات هجر الجميع. عاد إلى سوريا. والمخرج في تعليقه المفعم بصوته الجهوري ولفظه المدروس للعربية الفصحى يقول إن الرجل الذي أنشأه علمانيا انقلب متديّنا، مما يفسّر السبب الذي من أجله هجر زواجه، معتبرا أنه كان زواجا باطلا.

لكن خلال تلك المرحلة التي كان الأب (لا نراه إلا من خلال صور فوتوغرافية) لا يزال يعيش في لبنان، أمّت زوجته نوال الحزب الشيوعي اللبناني وأصبحت عضوا فيه. وهي بدورها أعادت التفكير ووجدت أنها غير راضية عن تلك الخطوة فانسحبت: «اكتشفتُ أن الممارسات لم تكن بمستوى الأفكار» كما تقول لابنها رامي وهو يصوّرها في مقابلة تؤلّف معظم الفيلم.

كل ذلك هو من نسيج هذا الفيلم وليس نسيجه الكامل. هناك موضوع مهم يحاوره المخرج بجدارة يشمل الحرب اللبنانية والقضية الفلسطينية والذاكرة الفردية والمجتمع الإنساني المار عبر كل ذلك. لا يتوقّف كثيرا عند هذه المسائل والمشاغل، لكنه يتطرّق إليها على نحو يتوافق ونظرته الكليّة لما يقدم عليه من خلال هذا الفيلم: عرض حكاية والدته الغريبة وما تعايشه من أحلام وذكريات، والشغل على الصورة بذكاء وفاعلية.

* باسم السينما التجريبية

* ويكاد المرء يقول إن ما يفعله رامي الحناوي في هذا الفيلم هو النقيض الكامل لما يفعله عمار البيك في فيلمه التجريبي (المنساق في نطاق مسابقة الفيلم التسجيلي) وعنوانه «أسبرين ورصاصة».

عمّار البيك مخرج سوري حديث قدّم أفلاما قصيرة آخرها «حاضنة الشمس» الذي تناول فيه خفاءً الثورة ضد النظام في بلده. طريقته في ذلك أن يعرض مشاهد مما كان يعرضه التلفزيون عن الثورة المصرية، ثم نكتشف أن المخرج وزوجته في سبيلهما للخروج إلى تظاهرة مشابهة في سوريا. لكن المخرج كان حذرا وربما لم يكن، فهو إن قصد أن يقول إنه مع المتظاهرين ضد النظام السوري، لم يذكر كلمة سوريا ولا صوّر مشهدا واحدا لتظاهرة سورية. وبل يستطيع دوما أن يقول إن ذلك الفيلم إنما يحكي عن رجل وزوجته يعيشان في مصر وليس في سوريا.

هذا الحديث ليس سياسيا (والفيلم ليس سياسيا بدوره) بل هو عن خيارات المخرج وطريقته في الإفلات من السؤال إذا ما ورد. لكن في فيلمه الطويل (125 دقيقة) يذهب، وهذا حقّه المشروع، بعيدا عن كل رابط سياسي. هو ليس فيلما موحيا بشيء مما تطرحه الأحداث، ولا عنده همّ الإشارة إلى ما يقع أو ما لم يقع، بل يتّجه إلى الاشتغال على الناحية التي أحبّها المخرج دائما وفضّلها: السينما ذات التجريب… حتى وإن لم تكن النتيجة على المستوى ذاته من الطموحات.

هناك أُمّ يتم التحقيق معها في هذا الفيلم (هي أمّ المخرج كما حقق سيمون الهبر مع أبيه في «الحوض الخامس» بعد قليل)، لكن في حين أن تجربة فيلم «يامو» حانية تستمد من الأم رهافة حسّها وعذاب أيامها وتضحياتها، ليس لدى «أسبرين ورصاصة» ما يستفيد منه على هذا الصعيد. نصف المشاهد التي تقع مع الأم تصوّرها وهي جالسة على الكنبة بانتظار بدء التصوير. وفي هذا الانتظار لامرأة عجوز ولا تعرف شيئا عن الكاميرا والسينما (ناهيك عن الفيلم التجريبي) هذا أقرب إلى التعذيب يمارسه المخرج ببرودة أعصاب (تقول له: «خلّصني… صوّر… ضاق خلقي وأنت واقف بتشرب سيجارة»).

هذه ليست نكسة الفيلم الوحيدة. هناك صديق المخرج زغلول الذي يملأ مشاهده إما بحكايات مغامراته العاطفية في باريس التي قضى فيها خمسا وعشرين سنة، أو يترجم لنا كلمات الأغاني الفرنسية التي يستمع إليها مرددا إعجابه بها «ولك شو هيدا يا زلمي؟» ثم هناك رجل وامرأة لا نعرف مكانهما من الإعراب يتجالسان ويتعانقان ثم يتجالسان. وفي الموازاة المخرج نفسه مع ممثلة فرنسية يطلب منها أن تقرأ بالفرنسية نصوصا وضعها المخرج الفرنسي روبير بريسو. في الباقي من الفيلم، وكل ذلك يمر على شكل خطوط متوازية ينتقل بينها الفيلم كما يريد، صور مخرجين لأفلام يعرضها عمّار البيك من خلال جهاز تلفزيون قديم وصغير أمام كاميرته البعيدة. كل ذلك وسواه وليس هناك من سبب لأي من هذه الخطوط ولا للفيلم بأسره.

هذا ما يتوّجه بالسؤال: إما أن المخرج لم يكن لديه فعلا ما يقوله، أو أنه أساء الإيصال، أو أن هذا الناقد أساء الاستقبال تماما، وهو أمر صعب الحدوث لمن أمضى حياته متابعا لكل لون سينمائي استطاع التقاطه على الشاشة.

* مرسيدسات

* مثل «تاكسي البلد» الذي قدّمناه هنا قبل أيام، يتحدّث «مرسيدس» (أو «مارسيدس» كما كُتب العنوان) عن التاكسيات اللبنانية، كذلك سنجد الفيلم الوثائقي اللبناني الآخر «الحوض الخامس» فيه شطر كبير منه يدور حول التاكسي وسيارة المرسيدس. لكن «مرسيدس» الفيلم يختلف في أنه يصوّر حال السيارة التي كانت رمز سيارات التاكسي والسرفيس في لبنان، وهي تُقاد وتُغسل وتُقصف وتُدمّر. إنها في متناول الأحداث كونها الأكثر انتشارا وفي أحد المشاهد نراها وهي تسحل مواطنا ميّتا.

هذه الصور تؤلّف معظم الفيلم الذي يريد تأريخ الحرب من خلال تاريخ المرسيدس فيه. لكن الفيلم متشرذم ومحدود الفعل. ولو أخذنا مشاهد المرسيدس بأسرها، لما اختلف مضمونه لأنه في الأساس يستعرض ما حدث خلال السنوات الستّ عشرة. بالتالي تأريخ الحرب مطروق هنا لكن تاريخ المرسيدس فيه لا يتبلور صوب ناصية مهمّة. من حسن حظ الفيلم أن المخرج لا يطرح المرسيدس على أساس أنها أهم من الإنسان، لكن القليل مما هو معروض يهدف إلى شيء ما أكثر من مجرّد عرضه.

ولا يستطيع المرء إلا أن يُلاحظ أن الفيلم يبدأ بإدانة الطائفية بينما كل العاملين فيه من طائفة واحدة. ولا يمكن تفويت حقيقة أن كل تلك العناوين الفرعية التي يحفل بها الفيلم ليفصل بين مشهد وآخر، لا تضيف إلا بقدر ما تأخذ. إنها تضيف عنوانا لما سنراه وشرحا للمرغوب إيصاله، لكنها تأخذ من الفيلم قدرته الخاصّة على توظيف الصورة لتوفير المضمون.

فيلم سيمون الهبر «الحوض الخامس» يقع أيضا في مطب أن الاهتمام أساسا هو بطائفة واحدة أكثر من سواها، لكنه على الأقل يحتوي على سواها. يتناول الحوض الخامس القابع في ميناء بيروت المليء بالشاحنات والبضائع وبالرجال الجالسين مع ذكرياتهم حول سنوات الحرب حين كانوا يعملون هنا. هذا الحديث شيّق وفيه ما يضفي بعض المعلومات الجديدة حول كيف تقاسمت الفئات المتحاربة الصادر والوارد على طريقة «حكلّي تحكّلك» كما قال أحد المستذكرين. لكن النصف الثاني من الفيلم هو عن والد المخرج الذي يقود سيارة تاكسي مرسيدس ويفتح نافذته الخاصة على ذكريات الحرب. طبعا لا أحد يقول كل شيء، وربما لا أحد يستطيع. هناك حذر تحت الكلمات. لكن كلام الأب عام وقصصه ليست ذات أهمية خارج نطاقها العائلي. لا يهم كثيرا أن يتحدّث عن حكاياته الشخصية كونها تبقى شخصية مُساقة ضمن رغبة المخرج البقاء في أتونه وهو الذي سبق وقدّم فيلما أفضل عنوانه «سمعان بالضيعة».

خلال تبادل الذكريات وفتح النوافذ نصف فتحة، يحسن سيمون الهبر تصوير تلك المشاهد العابقة بالمكان أو البعيدة عنه. هو أساسا يبدأ فيلمه بمشهد يفتح العينين على اتساعهما: مجموعة من الأبقار تغادر حظائرها المعدنية الكبيرة إلى ما سنكتشف لاحقا الشاحنات التي ستخرج من الميناء. تلك اللحظات التي تحاول فيها البقرة الواحدة معرفة أين هي الآن وممانعة قيادتها خوفا من أن يكمن بانتظارها ما لا تتمنّاه (وهو توقّع ينتشر بين المشاهدين كون الكاميرا لا تكشف عن المكان إلا لاحقا) وكيف تتحاشى إحدى البقرات الخروج من المكان فتتولّى أخرى ذلك من دون كثير تردد - تلك اللحظات تؤسس لمنهج الصورة عند هذا المخرج، وبالتالي منهج كل المشاهد التي لا تحتوي على رجال يتحدّثون.