مسجد السلطان أحمد.. روعة فنون العمارة الإسلامية

إسطنبول.. سلطانة التاريخ التركي

من المساجد السلطانية.. وله ست مآذن وقطر قبته 23.5 متر وارتفاعها 43 مترا
TT

إسطنبول مدينة التاريخ، وهي القسطنطينية و«الباب العالي» والدولة العثمانية بسلاطينها ونياشينها، ولا يمكن أن تصحو على صوت الأذان في اسطنبول وتغفل أو ترجئ زيارة صروحها الدينية التاريخية، مثل جامع السلطان أحمد أو الجامع الأزرق. وبعد تحويل كاتدرائية آيا صوفيا إلى متحف عام 1934، بات مسجد السلطان أحمد هو الجامع الرئيسي في اسطنبول وأحد أكبر صروحها الدينية، وهو أحد الأمثلة المذهلة على روعة العمارة العثمانية، وانتهى العمل في بنائه قبل عام واحد من وفاة السلطان أحمد.

وبمآذنه الست يجاور مسجد السلطان أحمد كنيسة آيا صوفيا التي تحولت إلى مسجد ثم متحف، وباتت ثامنة عجائب الدنيا. خطوات معدودة ويطالعك قصر «الباب العالي» أو طوب قابي الذي يكتنز الأمانات المقدسة التي استقدمت من مصر في تاريخ فتحها، وسيوف الصحابة ومقتنيات مهد النبوة وأقفال الكعبة المقدسة، وحيث تتواصل في «الأمانات المقدسة» غرفة التلاوة القرآنية ليلا نهارا.

والمساجد العظيمة في تركيا العثمانية تأسر القلوب والعقول، وتدل على ما وصل إليه المسلمون من حضارة ورقي في الفكر والعلم وفنون الزخرفة والهندسة. لقد كانت إسطنبول في عهد الخلافة العثمانية كما هي اليوم، تنار بالمصابيح ليلا بينما كانت باريس تقبع في ظلام دامس، وفي القاهرة أيضا تتألق العمارة العثمانية، ومن نماذجها أيضا بيت السحيمي، بل إنه البيت الوحيد المتكامل الذي يمثل عمارة القاهرة في العصر العثماني في مصر.

وبالعودة إلى الجامع الأزرق أو «السلطان أحمد»، الذي أطلق اسمه على المنطقة المحيطة به، فقد بناه المعماري محمد آغا تلميذ المعماري الأشهر سنان باشا الذي توجد بصماته المعمارية في اسطنبول والقاهرة، حيث يوجد مسجد سنان باشا في حي بولاق، وأعمال سنان متنوعة تشمل الجوامع والكليات التي تعني في العمارة العثمانية مجموعة المنشآت الخيرية والمدارس المحيطة بالجامع، والحمامات وبيوت القوافل، والكباري والجسور والطرق وسبل المياه والأضرحة، غير أن الأعمال التي طيرت شهرته وحفرت اسمه بين عباقرة العمارة في التاريخ هي جامع شهرزاده، وجامع السليمانية في اسطنبول، وجامع السليمية في أدرنة.

والداخل إلى صحن مسجد السلطان أحمد يتساءل عن سبب تسميته بالجامع الأزرق، وقد يعود ذلك إلى زخارف الخزف الأزرق المستقدم من مدينة إيزنيك (على مسافة ساعة من اسطنبول) الذي يطبع جدرانه وأيضا زخارف الخطوط الزرقاء التي تنقش قبابه. وفي يوم الجمعة من عام 1617م، تم الانتهاء من بناء الجامع بعد أن وضع السلطان أحمد آخر حجرة في قبته. والجامع يطل على مضيق البوسفور الذي يفصل القارة الأوروبية عن القارة الآسيوية، وهو ما يمنحه بعدا جماليا إضافيا. وهو يوجد داخل مجمع بناء كبير، يشمل السوق المغطى والحمام التركي والمستشفى والمدارس وتربة (ضريح) السلطان أحمد. والفضاء الداخلي للجامع عبارة عن مكان واحد فسيح. وتقوم القبة الرئيسية والقباب الفرعية الجانبية على أربعة أعمدة ضخمة، ويبلغ قطر القبة الرئيسية 23.5 متر، بينما ينير القسم الداخلي من الجامع 260 نافذة. أما ارتفاع قبته فهو 43 مترا. وقد أنشئت المنارات وفق الأسلوب التركي التقليدي، ويتم الصعود إلى الشرفات بواسطة مدرجات حلزونية الشكل».

وحول الجامع فناء مغطى بثلاثين قبة مطوقة بالشرفات ونافورة تنضفر فيها القناطر المنقوشة بالقرنفل والتيوليب النافر وزخارف الخط الإسلامي وأسماء الصحابة الأجلاء أبي بكر وعمر وعلي وعثمان (رضوان الله عليهم أجمعين). وكل مئذنة بالمسجد تحتوي على 3 شرفات، وحتى وقت قريب كان على المؤذن أو الداعي للصلاة أن يتسلق سلما ضيقا خمس مرات في اليوم للإعلان عن وقت الصلاة، واليوم يتم استعمال مكبرات الصوت للإعلان عن الصلاة، ويصل صوت المكبر إلى الأحياء القديمة في المدينة. يوميا وعند غروب الشمس يجتمع حشد كبير من الأتراك والسياح في الحديقة المقابلة للمسجد لسماع صوت الأذان مساء وللتمتع بمنظر غروب الشمس.

وجامع السلطان أحمد يعتبر أحد أضخم الأعمال المعمارية، وقد تم البدء في بنائه في عام 1609 وانتهى العمل فيه في 1617، ويعتبر من المساجد السلطانية وله ست مآذن. وترتكز قبته على أربع دعائم أسطوانية يبلغ قطر الواحدة منها 5 أمتار، ويطلق على الدعائم اسم أرجل الفيل، وتشغل بالزخارف المدهونة باللون الأزرق من الداخل، وهو سبب تسميته بالجامع الأزرق. أما سمته الهندسية والجمالية فهي غاية في الروعة، بعشرين ألف قطعة خزف من ازنيك تكسو جدرانه من الداخل، ويتخللها اللون الأصفر للزهور التقليدية. وتطل 260 نافذة على باحة المسجد الخارجية، ويبرز به فن الخط الإسلامي الذي نسخه وشبكه سيد قاسم غوباري، أعظم الخطاطين الأتراك آنذاك، وهو يعطي لمسات روحانية للمصلين.

وأصبحت اسطنبول بعد الفتح الإسلامي لها على أيدي العثمانيين عام 1453 متحفا واسعا للمساجد الفخمة النادرة المثال. تلك المساجد التي لا يزال معظمها شامخا في سماء اسطنبول بمآذنه الرشيقة العالية وقبابه الفخمة الواسعة، والملاحق والساحات التابعة له، مما يأخذ بألباب الناظرين من جهة ويشهد ببراعة المعماريين المسلمين من جهة أخرى. واسطنبول هي أكبر مدن الجمهورية التركية، وقد كانت في السابق تعرف باسم القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية البيزنطية، وغُيّر اسمها بعد الفتح الإسلامي لها إلى إسطنبول، وجُعلت عاصمة للخلافة الإسلامية العثمانية، وتقع على مضيق البوسفور. هي إحدى المدن الضخمة القلائل في العالم التي تقع على قارتي أوروبا وآسيا.

نعم إن اسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية خير شاهد على قدرات وإبداع المهندس المسلم، وجمعه بين الجمال والمهابة، وقدرته على التجديد مع الأصالة، ومزجه أطراف الدين بالحياة المتطورة، والتعبير بالبناء والحجر والطين عما يعجز القلم عن وصفه والإحاطة به بالحرف والكلمة والعبارة.

لقد ساقني الحظ ذات يوم إلى كنيسة معلقة أقيمت مكان محراب، وفي الأندلس عشرات أمثالها في قرطبة وغرناطة وملقة، و«آيا صوفيا» (المسجد والكنيسة) في اسطنبول المثال الحي على التقلبات العقائدية، فقد ظلت كنيسة لمدة 921 سنة، ثم صارت مسجدا لفترة 481 عاما، وهي الآن تزهو بالاثنين، ويمكن أن تقدم كمثال على تعايش الأديان حين تبعدها عن المطامع السياسية، وأين ذاك الذي يستطيع تخليص الدين السمح من السياسة؟.

وفي «آيا صوفيا» وفوق المحراب تماما وكما تجد في معظم المساجد التي صارت كنائس في الأندلس، لا بد أن تطالعك الآية الكريمة «كلما دخل عليها زكريا المحراب». وفي «آيا صوفيا» تجد الآية وحولها آية الكرسي على شكل نصف دائرة، وفوقهما في القبة الكبرى مريم العذراء بالأسود وطفلها عيسى عليه السلام بالذهبي، والهالتان النورانيتان تشعان سلاما ومحبة وسط الآيات القرآنية. وحين تحدق إلى الأعلى حيث الألوان التي عاشت أكثر من خمسة عشر قرنا ويكون المحراب على يمينك تنظر إلى اليسار فتطالعك الحكمة الإسلامية التقليدية «رأس الحكمة مخافة الله» التي تجدها بكثافة في المساجد وقصور الحكم. ولا تستطيع وأنت تجتاز ساحة «السلطان أحمد» من «آيا صوفيا» إلى المسجد الأزرق إلا أن تثني على تسامح السلطان أحمد الذي طلب من مهندسه المعماري أن يقيم مقابل الكنيسة مسجدا يضاهيها في الفخامة، وهو مسجد المآذن الست الذي تحكي عن بنائه عشرات القصص وأشهرها أن السلطان طلب من مهندسه المعماري أن يجعل المآذن من الذهب ولما لم يكن في السلطنة كلها ما يكفي ذلك المقدار العظيم، تلاعب المهندس باللغة وساعدته اللغة التركية على ذلك فكلمة «ألطن» فيها تعني الذهب، و«ألطيه» تعني «ستة»، وهكذا جعل المعمار للمسجد ست منارات وترك الذهب للزخرفة الداخلية الدقيقة التي أصبحت متاحة في ذلك الوقت بعد أن فرغ سليمان القانوني القاهرة من كل من فيها من أصحاب الحرف المهرة المتخصصين في البناء والفسيفساء والزخرفة والنحت الغائر والبارز وتعشيق الزجاج الملون في الخشب.. إنهم هؤلاء «الصنايعية» الذين وضعوا داخل ذلك المسجد فنا عريقا لا يضاهى.

وعندما ذهبت لصلاة الجمعة أوائل ديسمبر (كانون الأول) الحالي كان الجامع شبه مكتمل بالمصلين الذي جلسوا في خشوع يستمعون إلى الخطبة بالعربية والتركية. كنت منبهرا بالجو الروحاني وبهجة الأضواء الإيمانية التي تطل من كل ركن في المسجد سواء زخارف الأعمدة أو الأقواس أو طلة ألوان خزف ازنيك المبهرة، وبرز التنظيم المفرط في وجود موظفين من داخل المسجد لمعاونة المصلين على الجلوس في الطابق الأرضي أو الأعلى، وحالة السكون تخيم على المصلين الذين يخشعون لكلمات إمام المسجد.

وللجامع سور مرتفع يحيط به من جهاته الثلاث، وله خمسة مداخل اثنان منها يؤديان إلى القبلة مباشرة، وثلاثة مداخل تؤدي إلى صحن الجامع الواسع ليكون مركز تجمع المصلين قبل أدائهم الصلاة، وبني المسجد من عدة مستويات إذ تقع في أعلى المستوى الأولى القبة ويبلغ ارتفاعها 33 مترا وقطرها 43 مترا، أما داخل المسجد فإنه مبني على 20.000 عامود من السيراميك صنعت باليد، أما الطبقة العليا فإنها مرسومة بأكثر من 200 لون، والزجاج صمم بشكل يضفي ضوءا طبيعيا على المسجد. وتتم الاستعانة اليوم بالشمعدانات. وبمجرد دخولك إلى المسجد يلاحظ أن التصميم الداخلي يتضمن آيات من القرآن الكريم، والعنصر الأكثر أهمية في المسجد هو المحراب المصنوع من الرخام المنحوت بشكل مميز، والجدران المتاخمة للمحراب مغلفة بالسيراميك، وإلى يمين المحراب هناك المنبر حيث يقف الإمام ويخطب خطبة الجمعة أو خطبة صلاة العيد،و المسجد صمم بطريقة تسمح للجميع بأن يرى الإمام حتى في الأيام التي يكون فيها الجامع مزدحما بالمصلين. تم يأتي تغليف القباب والمنارات بالرصاص، أما شكل الهلال الموجود في أعلى المنارات والقبة فقد غلف بالنحاس بلون ذهبي. وهذا الجامع يقبل على زيارته كل عام الآلاف من الزوار المحليين والأجانب. وفي المناسبات الدينية، خاصة يوم الجمعة وفي شهر رمضان يضيق بمرتاديه على اتساعه فتُفرش السجادات في ساحات الجامع الداخلية والخارجية. وإذا كانت اسطنبول تفخر قبل الفتح الإسلامي لها على يد السلطان محمد الفاتح بأعظم كنيسة بنتها الأيدي البشرية على الأرض، وهي كنيسة آيا صوفيا (بنيت في قمة روعتها عام 537، في عهد الإمبراطور جوستيان، بعد أن جمع لها ورثة الإمبراطورية الرومانية كافة، من معماريين وآثار وأموال).. فإن الخلفاء العثمانيين والأمة الإسلامية نجحوا في تحدي الإمبراطورية الرومانية، وجوستيان بالذات، فأقاموا على أرض اسطنبول روائع أكبر وأعظم وأبقى من آيا صوفيا، مثل مسجد السلطان أحمد، ومسجد السليمانية، ومسجد الفاتح وغيرها من آثار مدهشة باهرة فاقت آيا صوفيا سعة ورقة ودقة وزخرفة وفنا.

وبعد وفاة السلطان العثماني مراد الثالث عام 1603، تولى السلطنة من بعده السلطان أحمد الأول (1603 - 1617)، وكأسلافه الذين سبقوه فقد أمر ببناء مسجد يضم مجمعا كبيرا للخدمات المدنية والعلمية والاجتماعية في عاصمته، يُجمع فيه أقصى ما يمكن من الفخامة الخارجية والداخلية، بحيث ينافس آيا صوفيا ويزيد عليها، فاشترى قطعة أرض كبيرة بمبلغ ضخم من صاحبها، بعد أن أعجبه فيها قربها من قصر الخلافة «طوب قابي» وإشرافها الرائع على البحر، وكلف أشهر مهندس عصره المهندس محمد آغا، الذي تلقى تدريبه على يد أكبر بناء في التاريخ الإسلامي العثماني سنان باشا، وأمره أن يضع بين يديه تصوراته الفنية الممكنة لهذا العمل الفريد المتميز. وكان المهندس محمد آغا قبل ذلك قد بدأ هواياته بتعلم الموسيقى فأتقنها، وأتقن معها فن التطعيم بالصدف، وبلغ فيه درجة عالية من المهارة، مما كان له أثر واضح في رقة أعماله وجمالها وتناسقها.

وأراد السلطان أحمد أن يبالغ في تعظيم شأن مسجده فأمر ببناء ست مآذن له تناطح السحاب، وكإشارة منه إلى تواضعه أمام بيت الله الحرام في مكة المكرمة، الذي كانت فيه ست مآذن حينذاك، ورغبة منه في أن تتميز الكعبة الشريفة وحدها دون سواها على مسجده، فقد أمر أن تضاف إلى مآذن المسجد الحرام البديعة مئذنة سابعة هدية منه لبيت الله المعظم، كما أمر بكسوة الكعبة بصفائح من الذهب، وركب لسطح الكعبة ميزابا من الذهب وأحاط أعمدة الحرم بحلقات مذهبة، ورمم جميع قباب المسجد الحرام وعددها آنذاك 260 قبة. وقد بدأ العمل في مسجد السلطان أحمد كما ذكرنا عام 1609، واستمر ذلك طيلة سبع سنين إلى أن انتهى وافتتح عام 1616، قبيل وفاة السلطان أحمد بعام واحد، وأصبح معلما من معالم العمارة الإسلامية، يلوح في الأفق بمآذنه الرشيقة للناظرين من بعيد، خاصة للقادمين على سطح بحر مرمرة أو مضيق البوسفور كأوسع مجمعات اسطنبول الإسلامية، وأرحب ما أنشئ من المساجد السلطانية وأكثرها مآذن.

والصورة العامة لمسجد السلطان أحمد: قاعة للصلاة يسبقها صحن من حوله أروقة من ثلاث جهات، وتحيط بالمسجد هذا أبنية ملحقة به منها مدرسه للتعليم الابتدائي (الأولي) ومستشفى متخصص في علاج الأمراض، وسوق، ودار للمرق (أي مطعم) للفقراء، وسبيل ماء للعطشى، ومحلات تدر ريعا وموردا ماليا للمسجد، وضريح السلطان أحمد يرقد فيه إلى يوم الدين، هذا كله وسط حديقة غناء تغمر أرضها الخضرة وتظللها الأشجار الباسقة وتزينها الورود الملونة.