أمسية للموشحات الأندلسية والأزجال الجزائرية تحييها بهجة رحال

لم تجد حرجا في تنبيه الجمهور بحسن الاستماع وعدم الرقص

بهجة رحال في أمسية غنائية
TT

بحق كانت أمسية للطرب الأصيل، أزجال جزائرية، وموشحات أندلسية، وأشعار كلاسيكية، وعزف متفرد بجرس ولحن ونغم، لدرجة أن المؤدية عندما غمر الفرح بعض الحضور فنهضوا يرقصون، أو «يشطحون» بدارجة أهل الجزائر، لم تجد حرجا في تنبيههم لضرورة الجلوس والصمت لحسن الاستماع، لا سيما وبين الحضور أجانب يرغبون في متابعة اللحن والكلمات.

تلك كانت الأمسية التي نظمتها بالعاصمة النمساوية فيينا جمعية الصداقة النمساوية الجزائرية احتفاء بمرور 50 عاما على استقلال الجزائر وأحيتها الفنانة بهجة رحال.

وعندما سألت «الشرق الأوسط» الفنانة بهجة ألم تخشَ أن يغضب منها الجمهور، لا سيما الحسان من الحضور ممن بادرن بالرقص، أكدت إلمامها بحقيقة كون الحضور كان متشوقا لكل ما هو جزائري بسبب الغربة، لكنها رأت ضرورة أن تلفت انتباههن لأهمية التزام القعود في صمت وهدوء حتى يستمتع الجميع أكثر بالشعر وبما قدمته من نوبة موسيقى كلاسيكية بدارجة جزائرية وموشحات أندلسية مما يتطلب التركيز للمتابعة.

وفي معرض إجابة عن سؤال ماذا لو اتهمت بالغرور أو بالغيرة لكونهن جذبن الأنظار وحولنها بعيدا عن خشبة المسرح، قالت: «لن يأخذنني مأخذ غرور، وما أقدمه هو فن راقٍ يلزمه صمت تام، لذا فإنني لا أرغب في جمهور يشطح»، والشطح هو الرقص عند الجزائريين.

وتواصل بهجة في اعتزاز واضح ودون أن تغلف آراءها بدبلوماسية مستعارة: «من الأحسن أن لا يرقصوا، فالكلمات تحتاج إلى تركيز لاستيعابها، وهذا الغناء الكلاسيكي صعب الأداء، وأنا أتمرن يوميا في بروفات متواصلة لتقديم غناء راقٍ ومميز، فـ(علاش) الرقص».

الموقف أعلاه قد يكون سببا من الأسباب التي تجعل كثيرين يعتقدون أن نوعية الغناء الكلاسيكي التقليدي والموشحات الأندلسية التي تؤديها بهجة رحال هو غناء للنخبة فقط وإن نفت هي ذلك، مؤكدة أن فنها للجميع، «لكن إن أحبته النخبة فلا بأس ولا ضرر من ذلك».

كما أفاضت في حوار مطول وصريح أجرته معها «الشرق الأوسط» عقب أمسية حفلها الذي حضره جمهور جزائري تابعها بكل أحاسيسه وبدا متعطشا لغنائها، جمهور عرف تماما متى يصفق ومتى يصمت، بل ومتى يزغرد في حفل جالية مجاني على غير العادة بدأ في موعده وكان رائقا كالحفلات الموسيقية التي يصدق وصفها بكلمة «كونسرت».

بعد كلمات ترحيب قصيرة معدة سلفا تم تقديمها بالفرنسية والألمانية لغة النمسا والعربية، بينما ارتجلت السفيرة الجزائرية كلمات بالإنجليزية ترحيبا ببعض السفراء ممن لا يتحدثون غير الإنجليزية، بدأ الحفل في جو مفعم بالصمت والتشوق إلى أن انفرط السكون قليلا عندما تداعت قلة من السيدات للتعبير عن نشوتهن رقصا مما شتت الانتباه بمتابعة الحسان ومما فتح مجالا لهمسات وتعليقات حول رقصة هذه وفستان تلك.

ووفقا للفنانة بهجة رحال وهي خريجة جامعية تركت تخصصها في علم الأحياء المجهرية للتخصص في الموسيقى الكلاسيكية والموشحات الأندلسية، فإن النخبة التي تهمها لا تقتصر على متعلمين، بل هناك أجيال من الأميين يحبون ويستمتعون بهذا النوع من الغناء الذي يقوم على أسس رغم أنه قد انتقل سماعيا عبر السنين ومن جيل إلى جيل، إلا أنه قد حافظ على أسس علمية وأوزان وضعها موهوبون وعلماء وفلاسفة ودارسون ومتبحرون في علم الفلك والتنجيم والرياضيات، ومنهم ابن الخطيب وابن زيدون، وحكام وسياسيون منهم ولادة بنت المستكفي، فجاء شعرهم راقيا موسيقيا لمن يتذوقه ومن يستسيغه.

تجيد بهجة العزف على آلة المندولين التي بدأت تعلمها وهي صغيرة لم تتجاوز الـ12 عاما، كما تجيد، بل وتشتهر بعزف القيثارة، وهي آلة جزائرية مائة في المائة تشبه العود تصنع أوتارها من أحشاء القطط. وأوضحت بهجة أن والدتها ألحقتها في معية كل أشقائها وشقيقاتها، وجميعهم 9، بمعهد الكونسرفتوار، بينما كان لها من العمر 6 سنوات، وبينما لم ينشغل غيرها من إخوتها بالموسيقى رغم دراستها لعلم الأحياء الذي من أجل مزيد من التخصص فيه انتقلت إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث لا تزال مقيمة مع زوجها الفنان ناجي حامي، إلا أنها في باريس تركت المعامل لمزيد من الفن الأندلسي والغناء التقليدي الذي أصبح شغلها الشاغل حتى أصبحت تلقب بسيدة الطرب ذات الصوت الذهبي كما يطلق عليها سفيرة النوبة الجزائرية.

وردا على سؤال أي لقب تفضل، «سيدة الطرب الكلاسيكي» أم «سفيرة النوبة الجزائرية»، وصفت السؤال باسمة بكونه وعرا، وبعد تأنّ فضلت أن تكون سفيرة النوبة الجزائرية، مما قادنا لاستعادة لحظة وطنية ثورية جميلة تحمس لها حضور حفلها أيما حماس، فعاودت ورددت مقطعا من رائعة مفتي الجزائر ابن قبابطي الذي تم عزله من موقعه لتنديده بالمستعمر كما تم نفيه وحبسه، ومن منفاه كان قد أرسل قصيدة يقول فيها: «يا حمام بلغ سلامي للجزائر».

ردا على سؤال لماذا تعيش في فرنسا، أجابت متسائلة بدورها: «ولِمَ لا؟»، مكتفية بالتأكيد أنها تعود للجزائر مرات ومرات في العام، وأنها كل ديسمبر (كانون الأول) تكون حاضرة بالجزائر لتسجل بجوقة كاملة، أكثر من 10 موسيقيين، ألبوما جديدا يظهر بدءا هناك مع مطلع كل فبراير (شباط)، مضيفة أنها في باريس ومنذ 12 سنة تقوم على تدريس الفن الأندلسي، ولها الآن أكثر من 50 طفلا يدرسون على عودها وصوتها وحفظها، كما كونت مؤخرا بصحبة عدد من الأصدقاء جمعية جديدة باسم «ريتمهارموني» لتوسيع التعليم ليشمل الكبار، مستشهدة أن الإقبال على تعلم هذا النوع من الموسيقى بالإضافة إلى الإقبال الذي تحظى به حفلاتها وتسجيلاتها، وبالإضافة إلى مؤلفات وكتب وأقراص، تؤكد أن هناك رغبة مستمرة للمتابعة والتعرف على الأندلسيات والغناء الجزائري التقليدي، بل هناك جمهور غير عربي يطلب تراجم للأشعار.

وبالسؤال عن منافسة الفيديو كليب وموسيقى الراي الشبابية الحديثة وموطنها الجزائر، نفت بهجة رحال أن تكون أغنيات الراي موسيقى أو لحنا، مكتفية بالقول إنهم أناس يعبرون أو يشتكون من قضية. طارحة السؤال: «أين هي الموسيقى في ما يقولون؟»، ثم تواصل: «إن كانت هذه هي الموضة الآن فسوف تأتي موجة جديدة تقضي على الراي، بينما بقي الغناء الكلاسيكي عبر كل هذه السنين وسيبقى».

و«الشرق الأوسط» تودع الفنانة بهجة رحال، وليس بهيجة ترحال كما يكتب اسمها، لتترك لها فسحة من الوقت حتى تستمتع قليلا بمعالم فيينا التي تزورها للمرة الأولى، طرأ سؤال أخير عن أشهر الفنانين الجزائريين، وكان ردها: «في أوروبا يقولون الشاب خالد، وقصدهم أن تعرف الجزائر بأغنية الراي الخفيفة».