مادة طبيعية جديدة ذات خصائص فريدة وتطبيقات متعددة

مستوحاة ومستلهمة من هيكل الحشرات

يهدف العلماء إلى صناعة حشرات روبوتية طائرة أو أرضية أو مائية، مستوحاة من الحشرات الحية الطبيعية
TT

من بين مجالات البحوث المهمة الناشئة حديثا، والواعدة بالكثير من التطبيقات في الحاضر والمستقبل، مجال التكنولوجيا والهندسة المستوحاة والمستلهمة من البيولوجيا (علم الأحياء)، الذي يدخل ضمن مصطلح علمي جديد يعرف بالإنجليزية باسم «بيوميمتكس» (Biomimetics)، ويعني دراسة بنية ووظيفة النظم البيولوجية كنماذج لتصميم وهندسة المواد والآلات. فعلى سبيل المثال، تنفق حاليا العديد من المؤسسات والمراكز البحثية بالدول المتقدمة، ملايين الدولارات، ضمن مشاريع بحثية ضخمة، لتطوير أجيال جديدة من طائرات صغيرة من دون طيار للمراقبة والاستطلاع، مستوحاة من البيولوجيا وتحاكيها، حيث تشبه الطيور الصغيرة كطائر النحل الطنان، الذي يعد من أصغر الطيور، وسمي بذلك نسبة للطنين الذي تصدره حركة أجنحته السريعة التي تصل إلى 60 إلى 80 ضربة في الثانية تبعا للحجم والنوع، وفي موسم التزاوج إلى 200 ضربة في الثانية. حيث يقوم العلماء بدراسة خصائص وآلية طيران هذا الطائر وطبيعة أجنحته، التي منها أنه الطائر الوحيد الذي يستطيع الطيران للخلف، بخلاف جميع الطيور تطير للأمام دائما، وكذلك سرعة ضربات جناحية، ووزنه القليل والخفيف (1.2 - 2 غرام)، وطوله نحو 5 سم. وكذلك صناعة حشرات روبوتية طائرة أو أرضية أو مائية، مستوحاة من الحشرات الحية الطبيعية، وتتمتع بإمكانيات وتقنيات سمعية وبصرية هائلة، للاستخدام في المراقبة وعمليات البحث في الأماكن الخطرة ووقت وقوع الكوارث كالزلازل والحرائق وانهيارات المباني، للكشف عن وجود أفراد وتحديد أماكنهم بدقة وتسهيل مهام إنقاذهم.

ومن بين البحوث الواعدة المعلن عنها مؤخرا، في مجال «بيوميمتكس»، ما توصل إليه باحثون من معهد «ويس» للهندسة المستوحاة من البيولوجيا بجامعة هارفارد الأميركية، حيث قاموا بتطوير مادة جديدة تماثل، من حيث التميز في القوة والمتانة والتنوع، إحدى مواد الطبيعة الخارقة، ألا وهي هيكل الحشرة. وتتميز هذه المادة الجديدة، التي تسمى «شريلك» (Shrilk) بقلة التكلفة، والقابلية للتحلل، والتوافق الحيوي، وقد تحل يوما ما محل البلاستيك في المنتجات الاستهلاكية، كما يمكن استخدامها بصورة آمنة في مجموعة متنوعة من التطبيقات الطبية.

وقد نشرت نتائج هذه الدراسة في عدد 13 ديسمبر (كانون الأول) الحالي من النسخة الإلكترونية لمجلة المواد المتقدمة. وقام بالدراسة كل من جافير فيرنانديز، زميل دكتوراه في معهد «ويس»، والدكتور دونالد إنجبير، المدير المؤسس للمعهد، وأستاذ كرسي «البروفسور جودة فوكمان» لبيولوجيا الأوعية الدموية في كلية الطب بجامعة هارفارد ومستشفى الأطفال في بوسطن، وأستاذ الهندسة الحيوية بكلية الهندسة والعلوم التطبيقية.

والهيكل الطبيعي للحشرة، مثل الذي يوجد في الهيكل الخارجي لذبابة المنزل، وحشرة الجندب، يناسب بشكل فريد التحدي الذي يتمثل في توفير الحماية لها دون إضافة زيادة في الوزن أو الحجم، وبهذا يمكنه مقاومة الضغوط الكيميائية والفيزيائية الخارجية دون الإضرار بالمكونات الداخلية للحشرة، مع توفير بنية لعضلات وأجنحة الحشرة، وأيضا قدرة الهيكل المذهلة على تغيير خصائصه من قطاعات جامدة بطول جسم الحشرة والأجنحة، إلى أخرى مرنة بطول مفاصل الأطراف.

وهيكل الحشرة هو مادة مركبة تتكون من طبقات من «الكيتين»(chitin)، و«بوليمر السكاريد» (عديدات السكاكر) (polysaccharide polymer) وبروتين، منظمة في بنية مثل الرقائق الخشبية، والتفاعلات الميكانيكية والكيميائية بين هذه المواد، تمنح هيكل الحشرة خصائص ميكانيكية وكيميائية فريدة. والهيكل الخارجي للحشرة الذي يسمى بالإهاب (Cuticle) يتكون من طبقتين: طبقة أولى خارجية رقيقة شمعية لمنع تسرب المياه ولا تحتوي على مادة الكيتين، والطبقة الثانية تقع تحت الأولى وأكثر سمكا منها وتحتوي على مادة الكيتين، وتتألف من قسمين: القسم الأول يعرف بالإهاب الخارجي وهو جامد ومتصلب، والثاني يعرف بالإهاب الداخلي، وهو قوي وطيع في نفس الوقت ويتكون من عدة طبقات من ألياف الكيتين والبروتين متقاطعة مع بعضها بشكل عمودي.

والكيتين، مادة بيولوجية من عديدات السكاريد (أحد أنواع السكريات المعقدة)، وهو بوليمر مكون من اتحاد أعداد كبيرة من السكريات الأحادية برابطة جليكوزية، ومن أمثلة عديدات السكاريد الأخرى، السليلوز، الذي يكون المركب الأساسي في الخلايا النباتية وخصوصا في جدارها، وهو موجود في جميع أنسجة النباتات، والسليلوز مثل النشا عبارة عن كربوهيدرات معقدة، ويعتبر من أوفر المركبات الكيميائية على وجه الأرض، كما يشكل المادة الخام الأساسية في العديد من الصناعات مثل صناعة الورق واللدائن والمنسوجات النباتية. والبوليمرات (Polymers)، مصطلح مكون من مقطعين، هما (Poly) ويعني العديد (many)، و(mers) وتعني وحدات أو جزيئات (parts)، والبوليمرات هي جزيئات ضخمة مكونة من ارتباط عدد كبير جدا من الوحدات البنائية الصغيرة مع بعضها البعض، والتي يطلق عليها اسم «مونمرات» (monomers)، وتصنع البوليمرات بعملية كيميائية تعرف بالبلمرة، وقد وضع هذا المصطلح عالم الكيمياء السويدي جونز جاكوب بيرزيليوس (1848 - 1779)، في عام 1833، والبوليمرات في أصلها، إما طبيعية كالنشا والسليلوز والحرير والمطاط الطبيعي، أو صناعية كالبلاستيك والمطاط الصناعي والألياف الصناعية، وتعد البوليمرات من أكثر المواد استخداما في حياتنا اليومية المعاصرة، في العديد من المنتجات الصناعية والاستهلاكية، كالأدوات المنزلية والكهربائية والملابس وتعبئة وتغليف الأغذية والسلع والخيوط الصناعية والمطاط الصناعي والمواد اللاصقة ومواد البناء والورق والبلاستيك والسيراميك وغيرها.

فمن خلال دراسة تكوينات هيكل الحشرة والتفاعلات الكيميائية والميكانيكية المعقدة بينها وإعادة تخليق هذه الكيمياء الفريدة والتصميم الطبقي في المختبر، تمكن كل من فيرنانديز وإنجبير من هندسة فيلم رقيق شفاف، يتمتع بنفس بنية وتركيب هيكل الحشرة، وتسمى هذه المادة «شريلك»، لأنها تتركب من بروتين الفبروين (fibroin protein) الذي يتم الحصول عليه من الحرير والكيتين، الذي يستخلص من محارات الجمبري التي يتم التخلص منها، ويشبه «الشريلك» في قوته ومتانته سبائك الألمونيوم، ولكن ما هو إلا نصف وزنه، وقابل للتحلل، كما أنه ينتج بتكلفة قليلة جدا، خاصة أن الكيتين متوفر بسهولة كإحدى نفايات الجمبري، وأيضا يمكن قولبته في أشكال معقدة، مثل الأنابيب من خلال التحكم في محتوى الماء في عملية التصنيع، كما تمكن الباحثون أيضا من إنتاج مستويات صلابة متنوعة بين المرونة والجمود.

ويمكن أن يكون لهذه الخصائص العديد من التطبيقات، كبديل للبلاستيك، رخيص وآمن للبيئة، ويمكن أن يستخدم «الشريلك» لصناعة أكياس القمامة، والتغليف، وحفاضات الأطفال التي تتحلل بسرعة، ولكونها مادة قوية ومتوافقة حيويا بشكل كبير، يمكن استخدامها لخياطة الجروح التي تتحمل الأحمال الكبيرة، مثل إصلاح الفتق، فضلا عن استخدامها كسقالات في مجال طب التجديد.

ويقول فيرنانديز «بطبيعة الحال، مثل جميع المواد الخام، فإن وجود الكيتين والحرير محدود في الطبيعة، ففي حالة الكيتين، فالمحدودية عالية لأنه يعد ثاني أكثر البوليمرات من حيث الوفرة على وجه الأرض بعد السيليولوز، ويوجد الكيتين في الفطريات والحيوانات المفصلية مثل الجمبري، أما بالنسبة للفبروين، وهو بروتين يتم تخليقه أثناء عملية تصنيع الحرير، فمستوى المحدودية قليل، حيث لا يتم استخلاصه من النفايات التي يتم التخلص منها، مثلما هو الحال مع الكيتين الذي يستخلص من محارات الجمبري».

وعلى نطاق المختبر لا تمثل هذه المحدودية مشكلة، حيث يؤكد فيرنانديز قائلا بأنه «إذا أردنا تقديم تقنية جديدة للمستقبل وأردنا التوسع في الإنتاج، فسوف نتمكن من ذلك»، ويضيف أن «العلماء ربما يتغلبون على محدودية المصادر الطبيعية في إنتاج مادة (الشريلك) الجديدة بالاستعانة بالهندسة الوراثية، فالكيتين، على سبيل المثال، يمكن الإفراط فيه في الميكروبات المعدلة وراثية، وكما أن الفبروين تم إنتاجه في البكتيريا ولبن الماعز».

ويقول إنجبير «إننا عندما نتحدث عن مهمة معهد (ويس) في تخليق منتجات ومواد مستلهمة من علم البيولوجيا، فإن (شريلك) يعد مثالا على ما لدينا أخذه في الاعتبار»، ويضيف قائلا «إن (الشريلك) لديه القدرة على أن يكون حلا لبعض المشكلات البيئية الملحة في الوقت الحاضر، وأن يمثل نقطة انطلاق نحو تحقيق تطورات طبية مهمة».