آيات القرآن الكريم حين تخطو إلى «حوار الحضارات» من خلال الخط بالذهب

أعمال الخطاط البريطاني تجمل حسين في مدينة طرابلس اللبنانية

TT

لا يكتفي زائر «قصر نوفل» في قلب مدينة طرابلس (شمال لبنان) بالنظر إلى لوحات الخطاط البريطاني تجمل حسين بشكل سريع، بل يشده بريقها ودلالاتها الروحانية العميقة. الفنان الآتي من بيت متدين والغارق في عوالم أوروبية، قدم نموذجا متألقا عن الإسلام من خلال أعماله الفنية ومعارضه المتراكمة، حيث باتت «مطلوبة» ومحط أنظار الباحثين عن متعة فنية أصيلة.

مسافات قصيرة بين اللوحات تحيط بها أضواء خفيفة، تعطي انطباعا فاتنا للذهب الممتد على الأعمال المشغولة يدويا، وبإتقان لا يثني الفنان الباكستاني الأصل عن التعامل معها بشيء من العفوية.

يستدرك تجمل وهو يشرح للزائرين إلى المعرض القائم إلى أواخر شهر يناير (كانون الثاني) بعض التفاصيل القديمة عن لوحاته وتقنياتها. يقارب أعماله بطريقة أخرى، فهو بضيافة سكان يتكلمون العربية ومعظمهم مسلمون أو يعيشون في محيط مسلم ولديهم إلمام ديني بمعاني الآيات القرآنية المزينة والمكتوبة بالذهب.

الصدفة شاءت أن يكون معرضه الأول في لبنان في رحاب مدينة طرابلس المشهورة بتراثها الديني، بسبب وجود كثيف للمساجد المملوكية والعثمانية والآثار الإسلامية.

29 لوحة مختلفة بخطوطها وألوانها، والأهم بأضوائها المشعة، تسيطر على الباحة الداخلية لقصر نوفل، تضيف إليه الرصانة المتجذرة والمتألقة فيه، التي كان يحتفي بها في زمنه. استعاد القصر قيمته الحية، من خلال تحويله إلى مركز ثقافي، إلا أنه من خلال مجموعة «أصدقاء قصر نوفل» المنضوية تحت مظلة «تريبولي فوندايشن» استطاع أن يخط طريقه أكثر في عالم الفنون، ليستضيف في عاصمة الشمال فنانين عالميين من أمثال تجمل حسين. والقصر هو لأقارب زوجة تجمل الطرابلسية نائلة نوفل، ابنة العائلة المسيحية المشرقية، التي تعرفت إلى تجمل في باريس وتزوجته لاحقا وسكنت معه في لندن. حيث تؤكد زوجته أنها عرفت من خلال الباحث إلياس خلاط (مسؤول مجموعة أصدقاء قصر نوفل) أن قصر عائلتها تحول إلى مركز للثقافة، فقررت أن يكون معرض زوجها الأول في مدينته ولتكون مناسبة «حميمة» لها بأن تزور قبر والدها.

استطاع تجمل التفرد في مجال الخط العربي والزخرفة الإسلامية مما جعله مختلفا عن غيره، فكسر المألوف وبجرأة «استثنائية» روض خاماته الخشنة وطوّع حروفه وألوانه المذهبة وزخارفه التي تعيد صورة «حقيقية» عن الفن الإسلامي، وما كان عليه من أوج في الإتقان.

يؤكد تجمل في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «هناك اهتماما كبيرا في العالم الغربي بالفن الإسلامي والخط العربي، بينما يقل الاهتمام به في العالم الإسلامي»، مشيرا إلى أن «هناك الكثير من الخطاطين المسلمين، في كل أنحاء العالم الإسلامي، ما زالوا يمارسون الخط الإسلامي ولكن الاهتمام بهم والإضاءة على أعمالهم غير متاح بسبب الإعلام العربي الذي يهتم بأشياء أخرى»، موضحا أن «الزخرفة الإسلامية قد انتهت في القرن الثاني، ما عدا في المملكة المتحدة حيث يمارسها بعض الفنانين وأنا واحد منهم».

تجمل اكتسب مهارات فنه بتعليم ذاتي وممارسة لأكثر من عقدين من الزمن، وتلقى دروسا في خطي الثلث والكوفي على يد الخطاط الإيراني حسين فاجهني، ومن خلال إقامته في لندن درس على يد الخطاط الباكستاني حافظ سديدي.

يشرح تجمل عن أعماله مؤكدا أنها تعطي «تعبيرا بصريا ويتم ذلك بالتركيز على الزخرفة باستخدام مكثف للذهب، فقد جربت العمل في أنواع مختلفة من الورق»، مضيفا أن «العرض يركز على فن الزخرفة مقارنة بالخط»، موضحا أن «الذهب كمعدن يعكس الضوء، وله حيويته الإشعاعية كالشمس. والقرآن الكريم يحدث لقارئه إشعاعا من الضوء والنور، بهذا المفهوم تكمن أهمية الذهب في الزخرفة الإسلامية، والذي استخدمه الفنانون والمسلمون منذ العهد العباسي وما تلاه بكثرة، ومعروف أن الذهب مادة صعبة الاستعمال جدا، ولكن الفنانين المسلمين استطاعوا تطويعه في مجال الزخرفة الإسلامية، التي لم تصل إليها أي حضارة أخرى من خلال مستوى مهاراتهم وإبداعهم وإتقانهم»، مؤكدا أن «هذه العملية تبدأ من خلال فكرة، ومن ثم تخطيط وتصور أولي، وبعدها يأتي دور التنفيذ، وتتراوح مدة تنفيذ لوحة عن أخرى، بين أسبوع وعدة سنين»، مشيرا إلى أن «هذه الأعمال الفنية تقرب الحوار بين الحضارات وتكسر الحواجز لقيمتها الفنية العميقة ولقدرتها على تقديم صورة جلية وحقيقية عن الدين بتسامحه وإنسانيته».