لا بد من صنعاء.. جمال المدينة ومشقة الوصول إليها

حركة الاحتجاجات أضرت بالسياحة.. والسلطة والمعارضة مسؤولتان

صنعاء القديمة (رويترز)
TT

تعد صنعاء من أقدم مدن العالم، وهي مسجلة من قبل «اليونيسكو» ضمن أهم 25 معلما تاريخيا في العالم، وتتميز بمعمارها التقليدي ومبانيها الجميلة ومنازلها التي يعود تاريخ بناء بعضها إلى أكثر من 500 سنة وما زالت مسكونة حتى اليوم، مع العلم أن تاريخ بناء المدينة يعود إلى حقبة غائرة في التاريخ. وقد اشتهرت صنعاء القديمة بمنازلها المتعددة الطوابق التي قد يصل عددها إلى 7 تبعا للحالة الاقتصادية والمكانة الاجتماعية لصاحب الدار. وقديما كان يستخدم الطابق الأول من منازل المدينة عادة كمخزن يتم فيه الاحتفاظ بالمواد الغذائية وغيرها مما يحتاج إليه في الحياة المعيشية، بينما تخصص الطوابق الأخرى للسكن وفق نظام معين، وتوجد بين البيوت القديمة بساتين تمسى «مقاشم».

ومن اللافت للنظر في المنازل القديمة العقود التي توضع عادة فوق النوافذ بشكل نصف دائري وهي زخارف بمادة الجص لتثبيت قطع من الزجاج الملون، من طبقتين وتوضع بين الطبقتين مصابيح تنار في الليل لتضيء المكان بأضواء ملونة في غاية الجمال. ومما تتميز به المدينة القديمة هي كثرة الأسواق الشعبية، وتنوع المنتوجات المعروضة فيها من حبوب وأقمشة وتحف وصناعات تقليدية ومجوهرات وغيرها، وتوجد مناطق محددة لكل سلعة، فهناك سوق الحبوب وسوق البز (القماش) وسوق التحف وغيرها من الأسواق. وتنقسم أسواق صنعاء الشعبية بدورها إلى مجموعة من الأسواق المتخصصة كسوق البز (القماش) وسوق البخور والعطور وسوق الزبيب وسوق البن وسوق الذهب والفضة وسوق النحاس وسوق الحرف اليدوية من حدادين ونجارين وبنائين وسوق القات وسوق الجلود وسوق الحبوب وسوق الحلي الشعبية المصنعة من العقيق والفضة وسوق المنسوجات وسوق الجنابي (الخناجر) والسيوف. وقد عانت صنعاء على مر الشهور العشرة الماضية من تردي الوضع المعيشي للسكان، كما عانى المشتغلون في الأعمال السياحية وأصحاب محلات بيع التحف والبخور والمصنوعات التقليدية من كساد واضح نتيجة لأحداث العنف التي شهدتها المدينة بعد اندلاع أحداث ثورة الشباب في البلاد. وبين الأزقة المتداخلة وفي ظل عمارات الطين التقليدية المزركشة بالحجارة الكلسية البيضاء والشبابيك الخشبية، ينتظر بائعو الحلي الفضية والعسل والعطور في صنعاء القديمة بلا أمل مجيء السياح مجددا بعد أن أرهقت مداخيلهم عشرة أشهر من الاضطرابات.

وقال إبراهيم بن عبيد الذي يملك 3 محلات في منطقة باب اليمن المدرجة على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) للمواقع المحمية، إن «دخلي انخفض بنسبة 90 في المائة منذ بدأت الأحداث في فبراير (شباط) الماضي». ولا تخلو الأزقة التي تفوح منها روائح الزعتر والعود والعنبر من المتسوقين: نساء منتقبات يشترين البهارات أو الثوم أو الأواني الفخارية لطبخ السلتة الصنعانية التي تؤكل كل يوم في بيوت أهل المدينة، ورجال يشحذون خناجرهم التقليدية أو يصلون في الجامع الكبير. «الدخول إلى هذه المنطقة يشبه الدخول إلى كتاب تاريخ». بهذه الكلمات يلخص السعودي محمد الدوسري شعوره عند الدخول إلى هذا المربع المحمي والخاطف للأنفاس من صنعاء. وبحسب الدوسري «أوروبا مليئة بالأماكن الرائعة من القرون الوسطى لكن الناس يعيشون فيها حياة عصرية. في صنعاء المكان تاريخي والحياة تاريخية». إلا أن الدوسري ليس سائحا، فهو غالبا ما يأتي لزيارة خاله اليمني الذي يملك محلا لبيع الفخاريات. ويقول خاله زبين العلي «كنت أبيع يوميا الأواني للأميركيين والفرنسيين والألمان. اختفوا الآن. بالطبع سيختفون، جل ما يسمعونه عن اليمن هو الخطف والقصف والقتل». وأشار إلى أنه كان يربح نحو مائتي ألف ريال شهريا (840 دولارا)، واليوم بالكاد «أجني ربع هذا الرقم، وذلك يكفيني ربما للأكل فقط (..) لحسن الحظ أملك منزلي ومتجري». وزار اليمن في 2009 مليون و28 ألف سائح بحسب أرقام وزارة السياحة، نصفهم تقريبا من الأجانب ونصفهم الآخر من اليمنيين المغتربين. وهذا الرقم يشمل 44 ألف سائح أوروبي ونحو 20 ألف سائح أميركي و50 ألف سائح آسيوي ونحو 297 ألف سائح من الشرق الأوسط هم بشكل أساسي من دول الخليج الغنية المجاورة (55 في المائة سعوديون و15 في المائة عمانيون و7 في المائة إماراتيون). وأنفق السياح في 2009 أكثر من 900 مليون دولار، وهو رقم لا يستهان به في بلد يعد من الأفقر في العالم لا يتعدى دخل الفرد فيه 2600 دولار سنويا (2010). وتؤكد وزارة السياحة أن عائدات السياحة تعد أساسية لاقتصاد اليمن الذي يبلغ عدد سكانه نحو 24 مليون نسمة، نصفهم تقريبا يعيشون تحت خط الفقر.

ويملك اليمن كميات قليلة من النفط تتضاءل بسرعة، ومع ذلك، ما زال النفط يشكل مصدر الدخل الأساسي. لكن الاضطرابات السياسية والأمنية دمرت اقتصاد البلاد في 2011 وقد تكون السياحة الوافدة وصلت إلى نقطة الصفر تقريبا. وقال إبراهيم بن عبيد لوكالة الصحافة الفرنسية وهو يحمل مصوغات من الفضة والعقيق أكد أنها صنعت قبل 120 عاما «السعوديون يحبون هذه الحلي وكانوا يشترون كميات منها، أما الفرنسيون فلا أحد منهم يفاصل على السعر. الآن أقول إن أعدادهم تراجعت بنسبة 95 في المائة. لم يعد يأتي إلينا إلا بعض السعوديين والخليجيين الذين تربطهم صلات قرابة باليمن».

ويستخدم إبراهيم مصباحا يعمل بالبطاريات لإظهار ما لديه في متجره المظلم الواقع في أسفل عمارة طينية ملتوية بعد الشيء. فالكهرباء مقطوعة معظم الأوقات في العاصمة اليمنية. ومنذ فبراير الماضي بدأت حركة احتجاجية واسعة في اليمن تطورت بسرعة وتحولت إلى نزاعات مسلحة وصراعات في مختلف المحافظات. وعما إذا كان متفائلا بالاتفاق السياسي الأخير، قال إبراهيم «السلطة والمعارضة هما واحد. لن يتغير شيء. بصراحة أعتقد أنهم يستعدون للحرب أكثر مما يستعدون للسلام». وتدخل جاره بائع النقولات ليقول «كل ما نريده هو الخبز، لكنهم لا يتركون لنا المجال لنعيش»، في إشارة إلى السياسيين. وصنعاء القديمة مأهولة منذ 2500 عام وهي مدرجة على لائحة منظمة اليونيسكو للتراث العالمي، وفيها 14 حماما و103 مساجد وأكثر من 6 آلاف منزل، كلها بنيت قبل القرن الميلادي الحادي عشر. لا تدخل السيارات إلى منطقة باب اليمن وصنعاء القديمة بسبب ضيق الأزقة وهشاشة وضع العمارات الطينية المبنية من دون أي عواميد، الأمر الذي يضع سكان المنطقة والبائعين فيها أمام تحد كبير: كيف يأتون بالماء؟ فالأزمة والاضطرابات في اليمن تتسبب في قطع الكهرباء والمياه، وليس بوسع الصهاريج الدخول لإفراغ المياه في الخزانات. وبالقرب من محلات الفضة، حمام تركي تقليدي يعاني من مشكلة المياه، إلا أن صاحبه وجد طريقة لإبقاء مؤسسته تعمل للسنة الـ412 على التوالي. وقال الموظف جمال الحميدي بينما كان يدخل إلى الحمام وبيده كيس من القات «نخزن (نمضغ القات) وننسى كل المشاكل، نتخيل عالما آخر، ثم ننام ونصحو لنجد أنفسنا في الدوامة ذاتها. ثم نبدأ من جديد».