ستراسبورغ.. عاصمة أعياد الميلاد في أوروبا

أكبر سوق للميلاد في أوروبا منذ القرن الرابع عشر

الشجرة الكبيرة التي تتوسط ساحة كليبير الواسعة
TT

تقع ستراسبورغ جغرافيا على الحدود الفرنسية الألمانية. التاريخ يقول إنها ألمانية. فإقليم الألزاس التي ستراسبورغ هي عاصمته، بالأساس كان إقليما ألمانيا. إذ قبل عام 1648 كان ألمانيا لكنه بعد هذا التاريخ ضم إلى فرنسا، لكن مع المحافظة على تراثه اللغوي، حيث حافظ سكان الألزاس على التحدث بالألمانية وهي لغتهم التاريخية في مقابل اللغة الرسمية وهي الفرنسية، إلى جانب احتفاظ البعض منهم على اللغة الألزاسية القديمة، التي تشبه إلى حد بعيد، اللغات القروسطية الأوروبية، التي لا يزال بعضها مستمرا لغاية الآن كما في بلجيكا.

في عام 1570، أسس في ستراسبورغ أول سوق للميلاد. في ذلك الوقت، كانت الأسواق الخاصة بأعياد الميلاد غير شائعة. وتم التأسيس لهذه السوق على أسس، يعتقد سكان المدينة أنها تميزهم عن غيرهم. وهي أسس المدينة التجارية وكذلك روح التسامح والإنسانية، التي كان يتحلى بها حامل روح العيد القديس نيكولاوس أو (بابا نويل) كما هو متعارف عليه اليوم.

يؤكد هذا التقليد أن أعياد الميلاد والاحتفال بها وكذلك شجرة الميلاد التي ترمز له، موجودان في المدينة منذ القرون الوسطى.

تم التحول في ذلك العيد على يد البابا بونيفاسيوس حين أوفد بين الأعوام 722 - 727 رسلا لهداية الشعب الجرماني. وفي أحد الأيام، كانوا يحتفلون بعيدهم على طريقتهم من خلال ربطهم ولد أحد الأمراء بشجرة صنوبر من أجل قتله كفدية. لكن البابا نهاهم عن هذا الفعل المشين وقطع الشجرة وأخذها إلى بيت الأمير للاحتفال بالمناسبة.

ولذلك، فهم منذ القرون الوسطى، يحتفلون بهذا العيد، قبل أن يتحول القديس نيكولاوس، إلى أحد أبرز رموزه قاطبة. ونيكولاوس الذي كان يعيش في القرن الخامس الميلادي، هو الابن الوحيد للتاجر إيبفانيوس وتونه زوجته. رزقهم الله به في وقت متأخر بعد أن حرما من الإنجاب لسنوات طويلة. وكانا يصليان ليرسل الله إليهما وريثا للثروة الكبيرة التي جمعاها. بعد تخطيه سن المراهقة انتسب الولد للرهبنة وتحول من وريث لثروة كبيرة إلى زاهد متقشف لا يسعى سوى إلى مرضاة الله. إلى أن وصل إلى مرتبة أسقف على مدينة ميرا. وفي أحد الأيام، علم بقصة أحد الفقراء الذي ينوي بسبب عدم قدرته على تزويج بناته الثلاثة، إرسالهم للعمل في المواخير، فقام الأسقف ليلا برمي مائة قطعة نقدية من نافذة بيت الرجل الفقير مكنته من تزويج ابنته الكبيرة، وبعد ذلك رمى له مثلهم فقام بتزويج ابنته الوسطى. وفي ليلة حين كان الأسقف يهم برمي القطع النقدية عثر عليه الرجل. لكن الأسقف رفض أن يقدم له الرجل الفقير أي شكر على الإحسان. بعد هذه القصة، تحول القديس نيكولاوس إلى رمز لإدخال البهجة والسرور على قلوب الفقراء والمحتاجين، وفي العصور الوسطى تحول ذكر هذا الأسقف إلى رمز للعيد من خلال الهدايا التي يحملها ويتركها للأطفال الصغار صبيحة اليوم الثاني من العيد. قبل أن يتحول مع الشاعر الأميركي كليمنت كلارك مور إلى (بابا نويل) في الأغنية الشهيرة التي ألفها مور بعنوان الليلة السابقة لأعياد الميلاد.

من أين نبدأ.

ففي كل عام من ديسمبر (كانون الأول)، وفي هذا التقليد الذي يعود للقرون الوسطى تتزين المدينة. السوق التي بدأت في ساحة الكاتدرائية القديمة، بفضل قرار المجلس المحلي للمدينة الذي كرسه قانونيا كعيد للقديس نيكولاوس، واستمر منذ ذلك التاريخ، دون انقطاع حتى في أحلك أيام الحروب التي عصفت بأوروبا.

كان ذلك في عام 1570 واستمرت السوق حتى عام 1870، حيث انتقل واستقر في ساحة بروغلي التي كانت، ولا تزال، من أشهر ساحات المدينة قبل أن تدخل الحداثة إليها بعد شق سكة للترامواي وتشجير الساحة من جانبيها التي تصل في النهاية إلى مبنى الأوبرا، وهو من أشهر مباني المدينة ومن أكثرها قيمة، سواء لناحية موقعه أو هندسته أو قيمته الثقافية. حيث تعقد في كل عام سهرة أوبرالية خاصة بالميلاد، دأبت على إحيائها الفرقة السيمفونية المحلية، وهي كانت في سنوات سابقة تستقبل عددا كبيرا من الفرق الموسيقية الكلاسيكية الضخمة التي تنعش الحياة في المدينة.

في عام 1990 بدأت سوق أعياد الميلاد تتوسع تدريجيا. فالمدينة الكبيرة، وهي من المدينة الأكثر كثافة لناحية السكان بعد باريس ومرسيليا. تعيش من خلال هذه السوق النموذجية، لحظات استقطاب سياحية وتجارية مهمة جدا، حيث يقال إنها تستقبل في الفترة التي تمتد من بداية 26 نوفمبر (تشرين الثاني) ولغاية 31 ديسمبر (كانون الأول) أعدادا تفوق الخمسة ملايين زائر. فالمدينة لا تتزين فقط، هذه الأيام لسبب تجاري، بل إن العيد الذي يحمل معه بشائر السعادة، خاصة للأطفال، يضيف للمدينة نكهة خاصة وزينة رائعة من خلال إزاحة الستار، كما في كل عام، عن الشجرة الكبيرة التي تتوسط ساحة كليبير الواسعة. لكن على الرغم من ذلك، ورغم جمال الشجرة ورمزيتها التاريخية بالنسبة للألزاسيين، لم تأخذ هذه الشجرة حقها من الشهرة على المستوى المحلي بنفس القدر الذي تأخذه الشجرة التي تنتصب عالية في داخل متجر لافاييت الكبير في باريس. لكنها دون شك، تلقى شهرة كبيرة في كافة المناطق الألمانية والفرنسية.

في بداية التسعينات، بدأت السوق تتحول إلى مظاهرة تجارية وثقافية كبيرة. فمن خلال الشوارع المتفرقة من ساحة بروغلي التي تتشعب لتصل أو تمر جميعها في ساحات المدينة، وبعضها يقطع نهر إيل الذي هو رافد من نهر الراين الشهير الذي يزنر المدينة القديمة من كل الجوانب ليحولها إلى جزيرة محمية. بدأت السوق موجودة في ساحة محطة القطارات الرئيسية وساحة الكاتدرائية الشهيرة، حيث تم لأول مرة في القرن السادس عشر وصولا إلى ساحة القصر وساحة المسرح الوطني ومدرسة الموسيقى، وهي من الأشهر في أوروبا وإلى كل حي من أحياء المدينة التي تظهر وكأن العيد هو عيدها.

من ساحة بروغلي مرورا بشارع دوم الذي تتزين جدرانه كلها بالأنوار الليلية الجذابة، وصولا إلى الجانب الخلفي من الكاتدرائية العتيقة، حتى الساحة الصغيرة التي تطل عليها بوابتها الرئيسية الضخمة المبنية على الطراز الباروكي بالعقد الجميلة والمزينة برسوم حجرية منحوتة بأيد ماهرة، تصطف الأكواخ الخشبية التي تبيع الهدايا وبرطمانات المربى المصنعة من الفواكه محليا وملابس الأطفال والكبار وقبعات بابا نويل وملابسه الحمراء وزناره الجلدي. في هذه السوق، وعلى مدار شهر، يمكن العثور على ملابس صوفية آتية من البيرو، تميزها الألوان المزركشة وكذلك على أعمال حرفية غاية في الدقة صنعت من الأخشاب والشموع، إلى جانب قبعات روسية من الفرو الأصلي غالية الثمن، إلى جانب وجود باعة من كل أنحاء أوروبا يشاركون كل عام من خلال عرض بضائعهم. كما يمكن، العثور علي الفنانين التشكيليين الذين ينتشرون بكثرة يعرضون أعمالهم الفنية وكذلك على العديد من الموسيقيين الذين يعزفون في الطرقات ألحانا ميلادية وكلاسيكية. كما يمكن للمتجول في هذه الطرقات العتيقة عتق المدينة نفسها والباردة في مثل هذا الوقت من العام، احتساء فنجان من الشوكولا المذوبة بالحليب، وعلى ما يقال هنا، فإن الحليب فرنسي والشوكولا سويسرية كقول شائع يبرز جانب الاحترافي في هذه الصناعة وكذلك جودة المنتجات. وفي القلب التاريخي للمدينة وشوارعها، تتجمع المقاهي التي يتجاوز عددها الثلاثمائة مقهى صغير وكبير، وغالبيتها تعتمد الألوان الحمراء والبيضاء والمطرزة على شكل مربعات وهو نوع القماش التقليدي للألزاس.

في داخل المدينة، ثمة العديد من المطاعم الممتازة وكذلك الكثير من المطاعم الصغيرة التي تقدم الأطباق المحلية وبضعة أنواع من الحساء الذي تشتهر به هذه المدينة الباردة. غير أن أجمل هذه المطاعم هو الأرتيشو الذي يتوسط الشارع الكبير، حيث من هناك يمكن الوصول مشيا على الأقدام إلى محطة القطارات التي تصل المدينة بباقي مدن فرنسا وأوروبا. في هذا المطعم الذي يهتم بالثقافة كثيرا من خلال السهرات الموسيقية الكلاسية وسهرات الجاز، يمكن تذوق المأكولات المصنوعة من المواد الطبيعية مائة في المائة. فالفلسفة التي قام عليها تعتمد في تسويقها على مساعدة صغار الفلاحين الذين يعيشون على محصولاتهم البسيطة في القرى النائية في فرنسا وألمانيا. وهي فلسفة تجارية وإن كانت تقوم على الربح، إلا أنها تقدم نفسها كنموذج إنساني في عصر يتسم بالاستهلاك، دون النظر إلى القيمة التي تمتاز بها المنتجات. وفي أي وقت من أوقات النهار وحتى ساعة متأخرة من الليل، يعتبر العثور على طاولة صغيرة، في هذا المكان، الذي تتزين جدرانه باللوحات وصور الفنانين، وبالركن الخاص بالموسيقى الذي يتوسطه بيانو ضخم، أمر بالغ الصعوبة، ويعتمد الرواد العارفون لطبيعته فكرة الحجز المسبق قبل أيام للاستمتاع بتذوق أطباقه المحلية وكذلك سماع الموسيقى الحية التي عادة ما يعزفها موسيقيون محليون أو قادمون لإحياء حفلات في المدينة.

يقودنا الطريق الكبير إلى ساحة محطة القطارات، الساحة الأكبر في المدينة خارج المدينة التاريخية المحاطة بمياه النهر. هناك حيث الاختلاط العجيب بجنسيات من كل العالم، وحيث كذلك، تصطف الأكواخ الخشبية، مرة جديدة، كما في كل الطرقات. ومن هناك كما من أي مكان آخر في المدينة، يمكن فقط اعتماد النقل المحلي للوصول إلى مدينة كيل الألمانية التي تقع على الضفة المقابلة من نهر الراين.

إن ما يميز سكان المدينة، هو الألبسة التقليدية المطرزة، خاصة ملابس النساء الألزاسيات، وهي ملابس تعود طرق تصميمها وخياطتها ونوعية أقمشتها إلى القرون الوسطى. ويفتخر الألزاسيون بأنهم من المناطق القليلة في أوروبا، حيث يمكن للمرأة أن تخرج من بيتها وهي ترتدي اللباس التقليدي خارج إطار المناسبات المحلية، التي عادة ما تشاهد فيها هذه الألبسة في غير مكان من أوروبا. كما أن التقليد الألزاسي قضى بأن تقوم الأم في الفترة التي تسبق زواج ابنتها بتفصيل ثوب تقليدي وإهدائه لها كنوع من حث الأجيال على التمسك بتراثها الثقافي الذي تعتبر الألبسة جزءا مهما منه.

بالعودة إلى المدينة القديمة، عبر شارع 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، وكذلك مشيا على الأقدام، نصل إلى ساحة كليبير، كبرى ساحات المدينة القديمة، حيث تنتصب شجرة الميلاد الجميلة بالقرب من متجر لافاييت الشهير، حيث تنتشر محلات الألبسة الغالية وبعض المتاجر الخاصة التي تبيع المصنوعات الجلدية الفرنسية والألمانية وبعض المقاهي الشهيرة في المدينة.

لا يمل زائر ستراسبورغ في مثل هذا الوقت من العام، من التجول داخل طرقاتها الكبيرة والصغيرة، تلك الطرقات الصغيرة التي عادة ما تفاجئنا فيها بعض المتاجر التقليدية، كذلك متاجر بيع التحف، كلها تتزين لاستقبال الميلاد. هذا الأمر، الذي يستمر منذ القرن السادس عشر دون توقف أو كلل، يجعل من المدينة وسوقها، الكبرى في أوروبا، وجهة مميزة لا تضاهيها وجهات كثيرة أخرى. ورغم القيمة التاريخية لهذه السوق المحلية والأوروبية، فإن المدينة التي يقع فيها مبنى البرلمان الأوروبي تسعى لتمثيل الصيغة التي توحدت أوروبا على أساسها كما بروكسل في بلجيكا، بيت أوروبا الجديدة.