أكثر من 100 مسن يعيدون الحياة العتيقة لقلب عروس البحر الحديث

ضمن فعالية «البناء الحي» لخمس مناطق سعودية قديمة

انطلق الحرفيون ليبنوا أمام الحضور نماذج مختلفة من البيوت السعودية القديمة التي يعود تاريخها إلى مئات السنين وسط أهازيج فلكلورية («الشرق الأوسط»)
TT

هؤلاء الحرفيون الذين يزيد عددهم على 100 شخص ولا تقل أعمارهم عن الخمسينات، شاركوا ضمن فعاليات ملتقى التراث العمراني الوطني الأول الذي شهدته عروس البحر الأحمر مؤخرا، وذلك بهدف الحفاظ على تراثهم وتعريف الجيل الجديد بالبيوت القديمة التي أنجبت أجدادهم.

العم عيد الحايطي، أحد البنائين المشاركين في المعرض والقادم من منطقة حائل، أوضح أن منطقته تحوي منازل قديمة يصل تاريخ بنائها لأكثر من 500 عام، وهي ما زالت محافظة على دفئها وبنائها وأمانها، غير أنها قد تحتاج مع مرور السنوات إلى عمليات ترميم بسيطة لبعض موادها كالأخشاب أو التربة، مؤكدا أن البيوت المسلحة الحديثة لا تستطيع مقاومة التغيرات لأكثر من 20 أو 30 عاما.

وقال في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «نستخدم في البناء القديم التراب والتبن ونخلطهما مع الماء ونترك الخليط لمدة ثلاثة أيام حتى يتماسك ومن ثم يوضع في قوالب ليصبح شبيها بـ(الطوب) ويكون صالحا للاستخدام»، لافتا إلى أن ما يميز المباني القديمة أنها دافئة في الشتاء وباردة أثناء الصيف. وأكد أن أهالي منطقة حائل لا يزالون يستخدمون هذه الطريقة التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم في البناء، مبينا أن جدة هي المدينة الوحيدة التي لم تعد تستخدم تلك الطريقة، في ظل محافظة المناطق الأخرى عليها خاصة عند بناء المزارع والاستراحات وبعض البيوت.

وأشار إلى أن أكثر الأسئلة التي كان يكررها طلاب كليات الهندسة والمشاركون معهم في الملتقى تدور حول كيفية تماسك هذه المباني خاصة تلك المبنية بالأحجار، مفيدا بأن هؤلاء الطلاب قسموا أنفسهم إلى خمس مجموعات موزعة على المناطق المشاركة والمتمثلة في «الباحة والقصيم والأحساء وأملج وحائل». وأضاف «شارك أبناء الجيل الجديد من الطلاب في عمليات البناء، وكانوا يستفسرون عن أدق التفاصيل والمتعلقة برص وحدات البناء ومدى إمكانية ترك فراغات في ما بينها لملئها بمواد أخرى لتتماسك، لا سيما أنهم كانوا يتوقعون أننا نفعل ذلك، غير أننا نضع الحجر فوق الآخر بطريقة متعاكسة بحيث تصبح كالأيدي المتشابكة من دون أن تكون بينها أي فراغات».

وذكر أن ما يميز هذه المباني هو تحملها للأمطار والبرد دون أن تترك آثارا سلبية على هذه المباني، خصوصا أنهم يقومون بـ«تلييس» البناء من الداخل بالطين، بينما تبقى الحجارة من الخارج كما هي، وهو ما يجعل المنزل باردا في الصيف ودافئا خلال الشتاء، مبينا أنهم قد يستخدمون خشب الـ«عرعر» الموجود في منطقة الباحة لبناء الأبواب كونه يعد من أجود أنواع الأخشاب.

في حين أبان العم سالم عبد الله الغامدي، المشارك من محافظة أملج (إحدى المحافظات الواقعة على ساحل البحر الأحمر)، أن الحجارة المستخدمة للبناء في منطقته يستخرجونها من البحر، ويجففونها كي تصبح قابلة للنحت، ومن ثم يشكلونها على هيئة مربعات ليستخدموها في البناء. ومثلما تتميز منطقة القصيم بأجود أنواع التمور، فإن بيوتها القديمة تميزت أيضا بوجود سعف النخيل وجذوعها، بحسب ما ذكره لـ«الشرق الأوسط» العم علي الهذلي، أحد البنائين الذين أتوا من القصيم للمشاركة في البناء الحي بجدة. وأضاف «كنا نعمل على قص جذع النخيل وتعليقه في المجالس داخل البيوت بحيث يكون الجو باردا، وذلك لحفظ الطعام بداخله نتيجة عدم وجود ثلاجات في ذلك الوقت، إلى جانب وضع جرار الماء أيضا».

وأشار إلى أنه يعمل في مهنة بناء البيوت القديمة منذ أكثر من 50 عاما، مؤكدا على وجود أدوات ومواد خاصة لكل زمان ومكان، إلا أن المنازل العتيقة صالحة لكل عصر باعتبارها مقاومة لعوامل التعرية، إضافة إلى ملاءمتها وتوافقها مع الأحوال الجوية، لا سيما أنهم يعتمدون في البناء على مواد الأرض نفسها كي لا تتأثر بالأمطار والطقوس الجوية المختلفة. وزاد «غالبا ما تكون البيوت القديمة في منطقة القصيم واسعة وتحوي مجلسا خاصا بالرجال، والذي يتم الاعتناء ببنائه كثيرا من حيث ضرورة وجود فتحات للتهوية ومكان مخصص للحطب ومخرز للقهوة وأغراضها»، مبينا أن ذلك المجلس المسمى بـ«الليوان» عادة ما يكون منعزلا عن المنزل بحيث يجلس الضيوف خارجه في أيام الحر وبداخله شتاء.

وفي ما يتعلق بالوقت المستغرق في بناء المنازل قديما، لفت العم علي إلى أن ذلك يتوقف على عدد العمال المشتغلين بالبناء والذين يتراوح عددهم من 4 إلى 10، لافتا إلى أن أطول مدة قد تمتد إلى ما يقارب 8 أشهر في حال كان المنزل كبيرا.

عبد رب الرسول عامل بناء من منطقة الأحساء، ويعمل في هذه المهنة منذ ما يقارب الـ65 عاما، قال في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «شاركت في البناء الحي لأحافظ على التراث من الضياع خاصة أن المباني الأوروبية الحديثة استحوذت على جميع مناطق ومدن بلادنا، وبات أبناؤنا يتناسون بيوت أجدادهم القديمة وشكلها».

وأوضح أنهم في مدينة الأحساء يستعملون الطين والحصى واللبنة في بناء المنازل، حيث يتم تنظيف الطين عن طريق دهسه بالأقدام لإخراج الشوائب والحصى منه، وذلك ضمن طريقة تسمى بـ«الخدم».

علامات الدهشة غطت ملامح نحو 30 طالبا من كلية الهندسة التابعة بجامعة الملك عبد العزيز جراء عملية البناء التي شاهدوها والمواد المستخدمة، حيث كثرت أسئلتهم للبنائين حول كيفية مقاومة تلك البيوت للتغيرات المناخية وصمودها أمام عوامل التعرية، خصوصا أن البعض منهم قرر عمل بحث تخرجه عن تلك المباني وقدرتها على التحمل والبقاء إلى أكثر من 100 عام.

عبد الله باشراحيل، أحد طلاب كلية الهندسة المعمارية في جامعة الملك عبد العزيز، أكد على استفادته من تلك الفعالية من خلال التعرف على المواد القديمة المستخدمة في البناء ومقارنتها بالمواد الحديثة، عدا عن الأشجار ذات الروائح الزكية التي كانوا يستخدموها في البناء حتى تعطي روائح زكية للمنزل. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «أضفت الأهازيج الفلكلورية التي يرددها العمال بشكل جماعي نوعا من التفاعل غير المتوقع بين الحرفيين وزوار المعرض، إلى جانب حضور معماريين من مختلف أنحاء العالم العربي والغربي لمشاهدة طريقة البناء القديمة وكيفية استمتاع البنائين أثناء عملهم الجماعي لا سيما أنه في القدم كان يتشارك أبناء الأسرة الواحدة في بناء المنزل الخاص بأي فرد من أفرادها».

بينما أرجع علي الوحيدي، طالب قسم التصاميم في جامعة الملك عبد العزيز، سبب جهل أبناء الجيل الحديث بالمباني القديمة إلى إهمال تشجيع السياحة الداخلية وعدم الاهتمام بها، خصوصا أنهم لا يستطيعون الذهاب لزيارة هذه الأماكن في مناطقها. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «أغلب زوار فعالية البناء الحي لم يذهبوا إلى زيارة تلك المناطق على أرض الواقع، مما جعلهم يتحمسون كثيرا لمعرفة الفرق بين كل منطقة منها، عدا عن تعجبهم من وجود عائلات ما زالت تسكن تلك البيوت منذ أكثر من 100 عام».

من جهته، ذكر محمد الحسيني، عضو الجمعية الوطنية للمتقاعدين، والقادم من المدينة المنورة لحضور ملتقى التراث العمراني الوطني الأول، أنهم قديما كانوا يستخدمون جذوع النخل في صناعة أسقف منازلهم، حيث يقومون بقصه على أشكال مختلفة، ومن ثم تغطيته بالطين المخدوم، لافتا إلى أن الإسمنت في السابق كان يتكون من رماد الحطب والذي يبقى لسنوات طويلة بعكس الجديد كونه لا يتحمل لأكثر من 20 عاما أو أقل. وقال في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «ما يحدث الآن من كوارث متعلقة بسقوط المباني وغيرها سببه قلة أمانة العاملين على بنائها، حيث إنه في السابق كان الأب يبني بيته بيده لأبنائه، بينما الآن أصبحت العمالة الوافدة هم من يقومون بهذا الأمر، الأمر الذي لا يجعلهم حريصين على الإتقان كأهل البلد أنفسهم». المواد الطبيعية لم يقتصر استخدامها على بناء البيوت فقط، وإنما تدخل أيضا في تصنيع أثاث المنازل من مفارش وسجاد تصنع يدويا بواسطة سعف النخل الذي يتم نقعه في الماء حتى يصبح لينا ومن ثم تتم خياطته، والتي عادة ما تقوم بها أيد نسائية.