هل نحن جاهزون لوظائف المستقبل؟

مهارات تحفظ بقاءك في سوق العمل المتغيرة

هناك طلب على المصنعين الذين لديهم مستوى عال من المهارات المتقدمة، فصانعو الآلات الدقيقة هم المسؤولون عن العديد من المنتجات التي نستخدمها يوميا (إ.ب.أ)
TT

في عصر العلوم والتكنولوجيا المتطورة والمتسارعة، تأثر واختفى العديد من الوظائف ولا تزال هناك أخرى في طريقها للاختفاء، لتحل محلها وظائف ومسميات أخرى جديدة ذات طبيعة ومواصفات خاصة، الأمر الذي أثر على ما يسمى بمفهوم الاستقرار أو الأمن الوظيفي أي الوظائف التي تدوم مدى الحياة، الذي يشكل عاملا مهما للعديد من الأفراد عند اختيارهم وظيفة ما. ولهذا فقد بدأت العديد من الحكومات والدول في إعداد وتأهيل وتزويد أبنائها بعلوم ومعارف ومهارات جديدة، لضمان تأمين حاضرهم ومستقبلهم تجاه التغير المستمر في سوق العمل والتخطيط مبكرا لمستقبل وظيفي أفضل وناجح.

ولعل من بين الأسئلة المهمة والمطروحة للنقاش بخصوص هذا الشأن: ما هي أفضل وظائف واتجاهات العمل في المستقبل القريب؟، وما هي أفضل التخصصات والنظم التعليمية والمناهج الجامعية المطروحة حاليا، والتي تضمن تخريج أجيال مبدعة، وتتوافق مع متغيرات سوق العمل وتدعم الاقتصاد المعرفي، وستحقق الاحتياجات التنموية للمجتمعات؟، وما هي المهارات التي نحتاجها للبقاء في سوق العمل؟

في عدد 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي من مجلة «تايم» الأسبوعية الأميركية، وفي مقال لكايلا ويبلي بعنوان «9 وظائف في المستقبل القريب»، أشارت سوزان لوند مديرة البحوث في معهد ماكينزي العالمي التابع لشركة ماكينزي العالمية للاستشارات، إلى أن طبيعة العمل أصبحت متغيرة، وفرص الوظائف أصبحت أكثر تخصصا ومهامها أكثر توجها، وبدوام جزئي أكثر، وأشار المقال إلى أن هناك 9 وظائف محددة سيكون عليها طلب خلال العقد المقبل، تضمنت: صانع الآلات الدقيقة، فمجال التصنيع قد تغير كثيرا، تقول لوند، بأن التصنيع لم يعد مجرد صف من العمال غير المهرة يقف عند خط التجميع، فبدلا من ذلك هناك طلب على المصنعين الذين لديهم مستوى عال من المهارات المتقدمة، فصانعو الآلات الدقيقة هم المسؤولون عن العديد من المنتجات التي نستخدمها يوميا، من الهواتف الجوالة لمراوح السقف لجهاز كاشف الدخان المستخدم للتحذير من اندلاع الحرائق، والتي يتم تطويرها باستخدام الكومبيوتر بدلا من قطعة بقطعة على خط التجميع.

ووظيفة مستشار وراثة أو جينات، فنتيجة الاستخدام المتزايد للأبحاث الوراثية لمعرفة الأمراض الموروثة لنا ولأطفالنا، وتواصل انخفاض تكلفة فك تسلسل الحمض النووي الـ«دي إن إيه» بأكمله (DNA)، والتي تبلغ حاليا نحو 5000 دولار، سيكون هناك طلب متزايد على وظيفة مستشارين جينيين، الذين سيعملون بالتنسيق مع فرق الرعاية الصحية لتوفير المعلومات وتقديم المشورة ودعم الأفراد والأسر التي لديها تشوهات خلقية واضطرابات وراثية، فهم يعملون في المقام الأول مع المرضى لاتخاذ قرارات بشأن أطفالهم الذين لم يولدوا بعد، كما يستطيعون الإجابة عن أسئلة صعبة من قبيل: ماذا ينبغي أن أفعل إذا كان لدي جين سرطان الثدي؟، وهل يجب أن يجهض الطفل الذي يحتوي على الجينات الوراثية للمرض؟، ووظيفة اختصاصي رعاية مسنين، فنتيجة لزيادة أعداد المسنين وارتفاع متوسط العمر المتوقع لهم، سيكون هناك طلب متزايد على اختصاصيين في مجال رعاية المسنين، من مقدمي الرعاية في المنزل إلى الأطباء المتخصصين في هذا المجال، الذي سيكون في قطاع التوظيف الأسرع نموا في قطاع الرعاية الصحية، وأن يكون لديهم مستويات مهارية وتعليمية عالية، وقادرين على التعامل بكفاءة مع هذه الفئة العمرية. كما يندرج في فئة وظائف المستقبل، وظيفة محامي براءات الاختراع، وبخاصة في الولايات المتحدة، بعد توقيع الرئيس أوباما في سبتمبر (أيلول) الماضي على القانون الأميركي الجديد للاختراع، الذي يتضمن كيفية معالجة ومراجعة براءات الاختراع، في أكبر إصلاح لنظام براءات الاختراع في 6 عقود، والذي سيجعل هناك طلبا متزايدا في الولايات المتحدة على محامي براءات الاختراع، الذين يعرفون ويفهمون الملكية الفكرية. ووظيفة أخصائي في الأمن المعلوماتي، وخصوصا بعد تزايد عمليات القرصنة الإلكترونية والضعف في أنظمة أمان المستخدمين وكلمات السر، ونشر الأخبار الزائفة. فعدم وجود نظم دفاعات فعالة في الفضاء الإلكتروني، هو في جزء منه بسبب النقص الحاد من المتخصصين في أمن الكومبيوتر، فهناك حاجة إلى عديد من الأفراد ممن لديهم المهارات الأمنية المتخصصة للعمل بفاعلية في الفضاء الإلكتروني، ولتلبية الاحتياجات الأمنية لأجهزة الكومبيوتر في الشركات الكبرى والوكالات الحكومية. ووظيفة المزارع العمودي أو الرأسي، فمع الزيادة السكانية العالمية المتسارعة وبخاصة في المدن ومشكلات الحصول على الغذاء والمشكلات المرتبطة بالزراعة الحديثة مثل إزالة الغابات والأسمدة الكيماوية وانبعاث ثاني أكسيد الكربون، سيكون هناك حاجة متزايدة للمتخصصين في مجال الزراعة الرأسية أو العمودية (Vertical farming)، وتكمن فكرة هذه الزراعة، التي طورها عام 1999 البروفسور الأميركي ديكسون ديسبومير أستاذ علم الأحياء الدقيقة والبيئة بجامعة كولومبيا الأميركية، في مزارع معلقة وسط المدن في بيوت زجاجية من عدة طوابق داخل المباني العالية وناطحات السحاب العملاقة، والتي من شأنها أن توفر الكثير من المساحات الزراعية، ويمكن فيها زراعة الحبوب والفواكه والخضراوات لملايين البشر. كما أن وظيفة إحصائيين (Statistician)، من الوظائف التي سيكون عليها طلب متزايد، نتيجة لكميات البيانات الهائلة لدى العديد من الشركات، والتي تتطلب تحليلها وتفعيلها واستخدامها وتحويلها إلى رؤى ودلالات هادفة. وكذلك وظيفة فني استدامة، فنتيجة للتوجهات العالمية المتزايدة لتبني ما يعرف بالاقتصاد الأخضر منخفض الكربون، والالتزام بالمعايير البيئية، حيث تقل انبعاثات الغازات الضارة ويتم ترشيد استهلاك الطاقة الكربونية وتشجيع استخدام المصادر البديلة والمتجددة للطاقة، بغرض حماية البيئة، ولأن الشركات تسعى لأن تكون أكثر ملاءمة للبيئة، فسوف يكون هناك طلب على فنيي استدامة، لديهم معرفة بالمحاسبة الكربونية أي حساب نسبة ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من المنتج، والمسؤولية الاجتماعية للشركات وتقنيات التصنيع وإعادة التدوير وإدارة المياه وحماية المناخ. ومن الوظائف الأخرى التي سيكون عليها طلب متزايد وتتطلب مستويات عالية من الخبرة والمهارة، وظائف اللحام تحت الماء للعمل على خطوط الأنابيب، ومفتشي البناء، والكهربائيين، والأخصائيين في تركيب وإصلاح المصاعد، وميكانيكيي طائرات، وفنيين في الصناعات التحويلية التي ينطوي نشاطها على تحويل المواد الأولية لمنتجات نهائية أو وسيطة.

أما شركة «وول ستريت 7/24» لأخبار المال، بنيويورك وموقعها الإلكتروني (http://247wallst.com)، فتشير إلى أن هناك عددا من الوظائف ستكون ذات رواتب أفضل في المستقبل، تضمنت: ممرضات مسجلين، ومحاسبين ومراجعين، ومحللي إدارة، ومهندسين لتطبيقات برامج الكومبيوتر، والأطباء والجراحين، ومحللين لأنظمة الكومبيوتر، ومحللين لبحوث السوق، ومهندسين مدنيين، وخبراء في صحة الأسنان، ومستشارين ماليين شخصيين.

والمتتبع للعديد من المواقع الإلكترونية التي تتناول اتجاهات العمل والوظائف في المستقبل، يلاحظ أنها تتعلق أكثر بالتقدم العلمي المتزايد في العلوم والتكنولوجيا، مثل تكنولوجيا الكومبيوتر والمعلومات والاتصالات الرقمية، والتكنولوجيا الحيوية (البيوتكنولوجي)، والروبوتات والذكاء الصناعي، وهندسة الأنسجة والجينات وطب التجديد، والخلايا الجذعية، وتكنولوجيا النانو (التقنيات المتناهية في الصغر)، وتكنولوجيا الطاقة وبخاصة المتجددة والبديلة، وتكنولوجيا الإعلام الرقمي، وغيرها من اتجاهات وعلوم حديثة ومتطورة. لهذا، فليس من المستغرب أن تكون وظائف المستقبل على صلة وثيقة بهذه العلوم، مثل، وظائف: محللي نظم شبكات البيانات والاتصالات، ومهندسي البرمجيات، ومديري أنظمة شبكة الكومبيوتر، ومديري قواعد البيانات، ومتخصصين في الأمن المعلوماتي، ومهندسي أنسجة بشرية، ومبرمجي جينات، ومتخصصين في تكنولوجيا النانو، وتكنولوجيا الطاقة البديلة والمتجددة، ومتخصصين في الإعلام الرقمي، وغيرها.

ولكن، لم تعد الشهادات والمؤهلات الجامعية بمفردها كافية ومناسبة لمتطلبات سوق العمل الوطنية والعالمية، فلا بد أن يتوافر لدى الخريجين مهارات شخصية وخبرات خاصة تمكنهم من النجاح في الحياة والمنافسة وتجعلهم مؤهلين ومدربين وجاهزين للعمل في أي مكان، فالنظم الحديثة في سوق العمل والتي أصبحت تطبق في الشركات والهيئات والمؤسسات الحكومية، تتضمن العديد من البرامج والوسائل الحديثة مثل برامج وتطبيقات الكومبيوتر الحديثة والمتقدمة في إدارة الموارد ونظم المعلومات، وتصميم وإدارة مواقع الإنترنت، والمهارات الشخصية اللازمة للنجاح في الحياة والضرورية للتواصل والتعامل مع الزملاء والرؤساء في بيئة العمل وجماهير المواطنين، والعمل الجماعي وإدارة الوقت.

ولكن ما هي المهارات التي نحتاجها في المستقبل للبقاء في سوق العمل المتغيرة؟

في تقرير بعنوان «مهارات العمل في المستقبل 2020» (Future Work Skills 2020)، صادر خلال العام الحالي، عن معهد أبحاث أبوللو، في باولو التو بولاية كاليفورنيا الأميركية، على الموقع الإلكتروني (http://apolloresearchinstitute.com)، أشار إلى أن هناك 10 مهارات سوف نحتاجها للعمل في المستقبل، تضمنت: مهارة صناعة المعاني، وتعني القدرة على تحديد المعاني العميقة وأهمية ما يتم التعبير عنه، ومهارة الذكاء الاجتماعي، وتعني القدرة على الاتصال والتفاعل مع الآخرين بطريقة عميقة ومباشرة، ومهارة التفكير التكيفي، وتعني الكفاءة في التفكير والتوصل إلى حلول واستجابات بعيدة، ومهارة الكفاءة عبر الثقافات، وتعني القدرة على العمل في بيئات ثقافية مختلفة، ومهارة التفكير الحسابي، وتعني القدرة على ترجمة كميات هائلة من البيانات إلى مفاهيم مجردة، وفهم البيانات المستندة إلى المنطق، ومهارة استخدام وسائط جديدة لمحو الأمية والتعلم المستمر، وتعني القدرة على التقييم النقدي وتطوير المحتوي باستخدام أشكال جديدة من وسائل الإعلام للاتصال المقنع كالفيديو أو الصوت، ومهارة عبر المناهجية، وتعني القدرة على فهم المفاهيم عبر تخصصات متعددة، ومهارة العقلية في التصميم، أي القدرة على تمثيل وتطوير مهام وإجراءات العمل لتحقيق النتائج المرجوة، ومهارة الإدارة المعرفية، وتعني القدرة على تمييز وتصفية المعلومات المهمة، وفهم كيفية تحقيق أقصى قدر من الأداء المعرفي باستخدام مجموعة متنوعة من الأدوات والتقنيات، ومهارة التعاون الواقعي، وتعني القدرة على العمل المنتج والمشاركة وتقديم ردود فعل فورية.

ولعل السؤال المطروح: ماذا يعني كل هذا بالنسبة لخريجي اليوم؟

حيث إن هناك تطورا متسارعا يوميا في اتجاهات العلوم والتكنولوجيا، فيعني ذلك أن هناك وظائف قد اختفت بالفعل وأخرى في طريقها للاختفاء، فعلى سبيل المثال، هناك في عالم اليوم العديد من الروبوتات والآلات الذكية، التي تزداد ذكاء، وتقوم بالفعل بالعديد من الوظائف والأعمال، التي اعتاد البشر القيام بها، والتي تكون في مستوى ذكاء البشر وأحيانا في مستويات تفوقها بكثير، الأمر الذي يتطلب أن يكون اقتصاد المعرفة واتجاهات العلوم والتكنولوجيا الحديثة في قائمة أولوية اهتمام الحكومات والمؤسسات التعليمية في المرحلة القادمة، ودعوة الأفراد للتفكير دائما في كيف سيؤثر اختفاء وظائف وظهور أخرى جديدة على حياتنا وهل يمكننا التكيف مع هذا الواقع الجديد، وكيف؟، ولا بد من إدراك حقيقة مهمة والتذكير بها دائما، وهي أن الحصول على الشهادات والدرجات الجامعية ليس نهاية مطاف التعليم، فلا بد أن يكون الفرد طموحا وعلى استعداد للتعلم مدى الحياة والتطوير من قدراته ومهاراته باستمرار، من خلال اكتساب خبرات ومهارات حياتية جديدة بوسائل عديدة، والتعرف دائما على التطورات المتزايدة في التكنولوجيا والعلوم الجديدة وكيف ستغير من نمط واتجاهات وأساليب حياتنا في الحاضر والمستقبل، للاستعداد مبكرا للتخطيط لحاضرنا ومستقبلنا، وأهمية أن نتعلم مهارات التفكير النقدي وكيفية إدارة الحياة والوقت، واتخاذ قرارات مناسبة في غياب بيانات كافية، وأهمية القراءة عموما لاكتساب معارف ومعلومات جديدة دائما من مختلف الثقافات، وبخاصة قراءة كتب ومجلات المستقبل والمواقع الإلكترونية التي تتناول اتجاهات العمل والوظائف في المستقبل للاستعداد والتخطيط لحياتنا الوظيفية، وتعزيز وترسيخ قيم وأخلاقيات العمل الأساسية، مثل الجدية والاجتهاد والدقة والانضباط والطموح والمثابرة والشعور بالمسؤولية والمحافظة على الوقت وحسن استغلاله، والتعاون والتكامل والعمل الجماعي، والانتماء والرقابة الذاتية، والتطوع لأداء أعمال ووظائف جديدة لتوسيع دائرة معارفنا وخبراتنا ولتحسين واكتساب مهارات الاتصال والتواصل الفعال والتعامل بنجاح مع الآخرين.