تكرير مياه الصرف الصحي بالقصب والحصى في لبنان

مشروع صديق للبيئة وداعم للزراعة

سركيس وفريق العمل إلى جانب المشروع («الشرق الأوسط»)
TT

هو نموذج مميز والأول من نوعه في لبنان، نظرا لكلفته البسيطة وآلية عمله على صعيد التعاون البلدي، وبفضله باتت بلدة رمحالا (جبل لبنان) تتربع على مياه جوفية، محمية تماما من الحفر الصحية، وراح أهلها يفتخرون بإنجازهم محطة تكرير طبيعية فريدة.

ولادة الفكرة جاءت نتيجة نقاشات كثيرة، في سبيل تأمين استدامة واستفادة قصوى من التمويل المقدم من السفارة الإيطالية في لبنان، حيث استُبدل بطلب تنفيذ مشروع حفر بئر مياه ارتوازية وتغذية الشبكة الذي قدمته بلدية رمحالا، مشروع بيئي من الدرجة الأولى.

ويقول صاحب الفكرة المهندس راشد سركيس، في حوار مع «الشرق الأوسط»: «إن المشروع يقضي بمعالجة الصرف الصحي طبيعيا، وبطريقة بسيطة جدا لا يدخل فيها أي عنصر آلي أو تقني، يحتاج إلى طاقة للتشغيل أو الصيانة».

وفي تفاصيل المشروع أن بلدية رمحالا قامت بشراء قطعة أرض، وشقت لها طريقا، وأهّلت المحيط، وواكبت الأشغال بإطلاق ورشة وصل البيوت إلى الشبكة الرئيسية، التي شكلت الجزء الأكبر من المشروع، في حين شكلت محطة التكرير الجزء المتبقي منه.

ويتابع سركيس: «اعتمدنا حفرة تركيد كبيرة لتأمين دخول المياه إلى الموقع بشكل سائل تماما، حيث تعبر مياه الصرف الصحي عبر الحقل المزروع بالقصب، وتخرج من الجهة الأخرى خالية من أي رائحة أو عناصر ملوثة، وتصب في بركة تجميع تساعد البلدية على استخدام المياه المعالجة حسب الحاجة.

أما دور القصب فيأتي بعد أن تعبر المياه بين الحصى البيضاء التي تحتضنه، ليمد بعدها الأول جذوره الكثيفة، مشكلا مساحة حركة أساسية للبكتيريا، التي تأكل كل الرواسب والجزئيات غير المتفككة الناتجة عن مرور المياه، بعد تعرضها للأكسدة بفعل النمط الخاص بالقصب، القادر على ضخ الأكسيجين بفضل جذوره الطويلة.

وبهذه الطريقة تنتهي مفاعيل المواد المؤذية والرائحة المنبعثة منها، وتخرج المياه من الجهة المقابلة ذات لون صافٍ، يميل بعض الشيء إلى لون معين دون رائحة أو أي مفاعيل ضارة تذكر، بحسب سركيس.

ومن العوامل المساهمة في إنجاح مشروع رمحالا هو أنها اسم على مسمى، فاسمها يعني بالسريانية «تلة رمل»، وهي تقع فعلا على تلة رملية على كتف وادٍ بين أربعة جبال، كذلك تحمل لقب «جورة الذهب»، لكثرة غلالها التي تؤمن لأبنائها اكتفاء ذاتيا من أربعة مواسم، هي: الزيتون، والحبوب على أنواعها، ودودة الحرير، وتربية المواشي.

وبما أن هذه المواسم تحتاج إلى الري فإن الاستفادة من المياه المعالجة بشكل كلي يتم دون كلفة تذكر، مقارنة مع باقي الطرق الأخرى لتأمين الكمية ذاتها من المياه، بعد خضوعها لترتيبات بسيطة كفيلة بتأمين اكتمال عناصر المياه الصالحة للري.

ويوضح رئيس بلدية رمحالا ميشال سعد: «بكلفة تشغيل لا تزيد عن الصفر باشرنا العمل بالمشروع منذ سنتين، ونتيجة التعاون مع الأهالي قمنا بتركيب الشبكة الثانوية في خط يلاقي الشبكة الرئيسية كمرحلة أولى، ثم تابعنا تنفيذ الوصلات المنزلية لتحويل كل مياه الصرف الصحي إلى المحطة، والاستغناء عن الحفر الصحية والتلوث الناتج عنها كمرحلة ثانية».

تجاوب أبناء البلدة البالغ عددهم 300 شخص كان إيجابيا، خصوصا أنها تشهد كثافة سكانية في الصيف طمعا في نسمة الهواء والهدوء اللذين تمتاز بهما، ويتجسد ذلك من خلال إقبالهم على دفع الاشتراك الرمزي في المشروع، تجنبا للتكاليف المترتبة على تفريغ الحفرة الخاصة بكل منزل، ما يساعدهم على الاستغناء بشكل نهائي عن تلك الحفر، كما يشير سعد.

وفي معادلة حسابية فإن معدل الخدمة يتطلب مساحة تتراوح بين 3 و4 أمتار مربعة لكل شخص، بينما تكلفة الشبكة مع المحطة لم تتجاوز مبلغ 160000 ليرة لبناني،ة أما الحفر الصحية في البلدة فقد تحولت إلى خزانات لحفظ مياه الأمطار، واستخدامها صيفا للهدف نفسه، وهو ري المزروعات.

وإذ يصف سعد المشروع بأنه صديق للبيئة بامتياز، يؤكد سعيه لاستخدام الكلور في المياه المعالجة، بهدف ري أصناف من الخضار، منها البقدونس والنعنع والفجل والبصل، مبديا سعادته لنجاح المشروع، لا سيما أنه يخفف من الأضرار البيئية، ولا يجلب الروائح الكريهة أو الحشرات.

وفي مقاربة بسيطة يقدمها سركيس فإن أي تمديدات لجر شبكة الصرف الصحي على مسافة تزيد عن كيلومتر واحد تكلف أكثر بكثير من شراء أرض لتكوين محطة تكرير طبيعية، كما يمكن تعميم هذا الحل على الكثير من القرى المتوسطة المساحة، من خلال استحداث عدة محطات، تؤدي خدماتها عبر توزيع متقن وفقا للانحدارات، لتغطية كل المساحات في البلدة، ما ينعكس نتائج إيجابية عليها. وهذا أمر شكّل حافزا لبلديتي القبيات والأرز (شمال لبنان) للاطلاع على تفاصيل المشروع، والتحضير لاعتماده كل منها في منطقته، مطلع عام 2012، كما يضيف سعد.

وفي الختام يؤكد سركيس أن اعتماد مبدأ الدرج البيئي في معظم جبال لبنان يجعل من المياه المبتذلة في البلدات التي تقع عليها منتجا مضاعفا، حيث يمكن توليد الطاقة الكهربائية منها، واستفادة الأراضي الأقل انخفاضا من الناتج المائي للري والزراعة، ما ينفي الحاجة إلى شبكات الصرف الصحي الرئيسية، وما تحتاج إليه من قنوات ضخمة، فضلا عن التخلي تدريجيا عن محطات التكرير الضخمة، التي يحتاج تشغيلها إلى كوادر بشرية وتقنية وتكاليف مادية.