قصر البيكاديللي في بيروت يستعد للعودة بعد استراحة قسرية 11 سنة

تكلفة إعادة ترميمه تتخطى المليون دولار

مسرح البيكاديللي في بيروت
TT

يستعد قصر البيكاديللي للعودة إلى الحياة، بعد توقف قسري عن العمل دام لأكثر من عشر سنوات، أي منذ تعرضه لحريق كبير عام 2000، قيل يومها إن سببه احتكاك كهربائي.

فقصر البيكاديللي الذي يرتبط تاريخه ارتباطا مباشرا بأهم الاستعراضات والمسرحيات اللبنانية والعالمية وخصوصا بأعمال الرحابنة، إذ كانت فيروز لا تطل على جمهورها إلا من على خشبته، أصبح على وشك نفض الغبار عن قاعته الكبرى التي تتسع لحضور 800 شخص، والتي عرفت بأثاثها الوفير والراقي، فتناسبت مع الاسم الذي لازمه منذ نشوئه «قصر البيكاديللي». فمن يدخل هذا الصرح لا بد أن يشعر تلقائيا بفخامة المكان، لا سيما أنه شكّل على مدى أربعين عاما متتاليا معلما فنيا ذاع صيته في الشرق والغرب.

ويؤكد ميلاد حداد، المدير المسؤول عن هذا المركز، أن الاستعدادات باتت على مشارف نهايتها لإعادة ترميم المسرح، الذي قد تتخطى تكلفتها المليون دولار، وتستغرق نحو السنة لتنفيذها.

وأشار حداد إلى أن شخصيات رأسمالية عدة حاولت استئجار هذا الصرح الفني أو استثماره تجاريا، إلا أن القيمين عليه رفضوا تغيير هويته الأصلية وفضلوا انتظار الوقت المناسب لإعادته إلى الواجهة، باعتباره يشكل رمزا تاريخيا فنيا لا يمكن الاستهانة به أو بأهميته القيمة في هذا المضمار.

يعتبر قصر البيكاديللي أول صرح فني وثقافي أقيم في شارع الحمراء المعروف في العاصمة بيروت، وقد صمم وبني وفق شروط هندسية وفنية تليق بالأعمال الضخمة آنذاك، ليعكس دور بيروت الفني والثقافي، فجذب كبار المثقفين والفنانين في العالمين العربي والغربي. افتتح هذا المسرح عام 1965 بحضور وزير الداخلية آنذاك الراحل بيار الجميل، ممثلا رئيس الجمهورية الراحل أيضا شارل الحلو. وبقي همزة وصل وحيدة بين البيروتيين أثناء الحرب، إذ كان يقصده البيروتيون من كل جهة للتمتع في رحابه بمسرحية ناقدة أو ضاحكة تنسيهم ولو لساعات قليلة همومهم ومعاناتهم اليومية.

ومن لم يعايش تلك الفترة الذهبية لبيروت لا بد أن يعلم أن هذا الصرح شهد محطات فنية مميزة، بدءا بفرقة أوركسترا فيينا العالمية للموسيقى الكلاسيكية التي افتتحته مرورا بمسرحيات الرحابنة، وبينها «هالة والملك» و«المحطة» و«الشخص» و«صح النوم» و«يعيش يعيش» وغيرها، ووصولا إلى العروض الأجنبية على أنواعها، كاستضافته لفريق «البوني إم» الغنائي العالمي.

تميزت صالة «البيكاديللي»، الذي استوحي اسمه من أحد المسارح الشهيرة في لندن بقاعة وكواليس وديكور راق طغى عليها الأحمر الخمري، وزين بصور لكبار الفنانين الذين حلوا ضيوفا عليه، كالراحلة داليدا وفرق موسيقية أوروبية وأميركية، إضافة إلى صورة ضخمة زينت أحد جدرانه لفيروز، التي ما زالت حتى اليوم تطالع من يزوره من جهة المدخل على السلالم. كما عرضت على شاشته أهم الأفلام العربية والعالمية مثل فيلم «دكتور زيفاكو» لعمر الشريف، الذي استمر عرضه لأشهر متتالية.

حاول قصر البيكاديللي، بعد انتهاء الأحداث في لبنان، استعادة دوره الثقافي، فقدم مسرحيات لزياد الرحباني وحفلات لمارسيل خليفة، إلا أن الظروف الاقتصادية الضاغطة في تلك الآونة حالت دون ذلك، وكانت مسرحية «عريسين مدري من وين» للكاتب مروان نجار تتحضر للانطلاق من على خشبته، عندما شب حريق كبير فيه قضى على تاريخه وعراقته.

ولأن الحريق اندلع ليلا، فقد استغرق وقتا طويلا لإخماده ولم يتهم أحد بافتعاله، حسب ما صرحت به المصادر الأمنية يومها، وقيل إن سببه احتكاك في الأسلاك الكهربائية، بينما أشار آخرون إلى أن عقب إحدى السجائر، التي رماها شخص ما بإهمال منه في القاعة، وكان ما زال «والعا» تسبب في الحريق الذي بلغت خسائره ما يفوق النصف مليون دولار، كما تردد يومها.

شيد قصر البيكاديللي، الذي تبلغ مساحته 2000 متر مربع، المهندس اللبناني وليم صيدناوي، بعد أن اقتبس هندسته عن قصر في البرتغال، وقد تميز بمقاعد مخملية حمراء وثيرة تتسع لـ800 شخص، وبثريات بلورية ضخمة بلغ سعر الواحدة منها 140 ألف ليرة لبنانية آنذاك، أي ما يوازي الـ100 ألف دولار اليوم، فيشعر ناظرها برهبة المكان وأهميته. ولطالما ارتبط شارع الحمراء، حيث يقع المسرح، بهذا الصرح، فكان الناس يرددون اسمه للإشارة إلى مكان ما في الحمراء، فصار بمثابة البوصلة المعروفة من أهالي المنطقة الذين يقولون مثلا: نزلة البيكاديللي أو باتجاه البيكاديللي أو الشارع الموازي للبيكاديللي، مما زاد من شهرته ومن اعتباره معلما من معالم بيروت الحضارية.

ونافس هذا الصرح أهم مسارح العاصمة في تلك الحقبة، حتى قيل إن شهرته كانت وراء إقفال التياترو الكبير وسط بيروت والأوبرا على ساحة البرج في المنطقة نفسها. وكان «البيكاديللي» مسرحا دائما وليليا، حتى في أحلك الظروف، وكان رواده يعرّجون على المقاهي المحيطة به حينها، قبيل دخولهم إليه أو بعد خروجهم منه، كالـ«هورس شو» والـ«ويمبي» والـ«كافيه دي باري».

وكانت ملكيته تعود إلى الأخوين هاشم وخالد العيتاني، ثم ما لبس أن تحول إلى مؤسسة يمولها أحد المصارف اللبنانية، وحاليا يشغل رئيس مجلس إدارتها د. خاطر أبو حبيب.

ويشير المدير المسؤول عنه، ميلاد حداد، إلى أن إعادة ترميمه ستشمل طلي جدرانه وإعادة تذهيبها، فقد كانت مصنوعة من الجص المذهب، وكذلك سيتم تغيير الثريات البلورية التي تشققت مع مرور الزمن، أما المقاعد فسيتم تنجيدها من جديد، مما سيرتب على المؤسسة تكلفة مرتفعة.

ويتذكر محمد البيبي، الذي شغل منصب مدير المؤسسة لفترة تجاوزت الثلاثين عاما، أهم الاستعراضات والمسرحيات التي شهدها «قصر البيكاديللي»، وبينها عروض لمسرحيات «شاهد ماشفش حاجة» و«الواد سيد الشغال»، و«مدرسة المشاغبين» لعادل إمام، وكذلك عروض أخرى لشيريهان والراحل فريد شوقي لمسرحية «شارع محمد علي»، لافتا في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن بعض المسرحيات اللبنانية كانت تستعين بديكور طبيعي تستخدمه على المسرح، كالحصان الذي رافق الممثل انطوان كرباج في إحدى مسرحياته وسيارة فورد «أبو دعسة» زرقاء مكشوفة استعملها الرحابنة في مسرحية «ميس الريم» لترافق فيروز في أغنية «هالسيارة مش عم تمشي بدنا حدا يدفشها دفشة».