كوم الناضورة.. فنار الإسكندرية المجهول

منها فتح ابن العاص مصر.. وبها تحصن نابليون.. وأقام محمد علي مرصدا للنجوم

منطقة كوم الناضورة الأثرية في ثوبها القديم ويظهر برج الناضورة العتيق
TT

في محيط منطقة المنشية وتحديدا في شارع بحري بك بحي الجمرك بالإسكندرية، ووسط ضجيج الورش والمحال التجارية، يظهر تل كوم الناضورة، يتوسطه برج أثري أنيق، من أعلى البرج الذي حل يوما محل فنار الإسكندرية بعد تهدمه في إرشاد السفن، واستعانت به جيوش نابليون لمعرفة أعداد السفن المقبلة على الإسكندرية، وأقام به محمد علي مرصدا لحركة النجوم والكواكب، يمكنك رؤية شاطئ الإسكندرية والسفن التي ترتمي قبالته، كما يمكنك رؤية أشهر معالم الإسكندرية، وفي الماضي كان أهالي الإسكندرية يصعدون للتلة للاستمتاع بهوائها المنعش، إلا أن كل هذه الروعة سجينة حاليا تحت شعار «مغلق للتحسينات».

في رحلة الصعود إلى التلة سينتابك شعور بأنك أحد الرحالة الذين طافوا بالمكان، فما زالت نسائم الهواء تعبق بأنفاسهم. ستحضرك أجواء الحملة الفرنسية ومدافع الهاون التي نصبها نابليون يوما هنا. فالمكان تحاك حوله الأساطير والروايات التاريخية وقصص الجن والعفاريت التي تناقلها أهالي الإسكندرية، ورسمه الرحالة الفرنسيون في كتاب «وصف مصر»، وتحدث عنه الرحالة العرب والمستشرقون، ويقال إنه المكان الذي بني فيه «مسجد عمرو بن العاص» الذي يروى عنه أنه كان من أعظم وأفخم المساجد على الإطلاق، وكان يعرف بمسميات كثيرة، منها: «مسجد الألف عمود» أو «الجامع العتيق» أو «مسجد السبعين» نسبة إلى السبعين حَبرا الذين ترجموا التوراة من العبرية إلى الرومية وأقاموا في تلك البقعة في عهد بطليموس الأول عام 280 قبل الميلاد. ويذكر بعض المؤرخين أن هذا المكان كان به كنيسة كبيرة شيدها البطريرك ثيوناس واشتهرت أيضا بأعمدتها.

ويؤكد الأثري حسام بعد الباسط لـ«الشرق الأوسط»: «هناك على هذا التل صعد الصحابيان عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت حينما فتحا المدينة للمرة الثانية سنة 25هـ- 645م، وأمرا بوضع السلاح عن أهل المدينة من الرومان، حيث بني مسجده الذي عرف منذ ذلك الوقت بـ(مسجد الرحمة) و(مسجد الألف عمود)».

وحول مسمى كوم الناضورة يقول: «عرف هذا التل قديما باسم (كوم وعلة) نسبة إلى عبد الرحمن بن وعلة، أحد رجال الحديث، المدفون بها، حيث كانت توجد هناك بداية من العصر الفاطمي مقبرة المدينة الرئيسية، التي تحدث عنها الرحالة الأندلسي ابن رشيد السبتي الذي زار المدينة في سنة 684هـ- 1285م، والتي دفن بها مشاهير المدينة من مشايخ المذاهب الإسلامية المختلفة، فهناك دُفن العالم الإمام أبو طاهر السلفي الحنفي، والإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي، والإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الرازي الملقب بابن الخطاب الشافعي. وهي المقبرة الوحيدة في العالم التي كانت تضم بين جنباتها رفات ثلاثة أئمة للمذاهب الأربعة الإسلامية». ويستطرد: «في العصور الوسطى كانت الأبراج أو المنارات أهم ما يميز الإسكندرية، خصوصا للقادمين من البحر، حيث يصل الرحالة والمسافرون، الذين لم يكن يطالعهم سوى جبلين وتلال من الأنقاض بالإضافة إلى عمود عظيم، يوضح للملاحين مدى اقترابهم من المدينة، وكان على أحد هذه التلال برج لمراقبة البحر، بينما يعرف في يومنا هذا بكوم الناضورة».

ويشير إلى البرج العتيق قائلا: «شيد برج المراقبة هذا في بدايات القرن الرابع عشر الميلادي بعد انهيار منارة الإسكندرية القديمة وأصبح عوضا عنها، حيث يخبرنا ابن فضل الله العمري (توفي سنة 1348م) بأن المنارة لم يعد متبقيا منها سوى 20 ذراعا، ولم يبقَ من الناظورات (المنارات) سوى المنارة المشيدة على التل المرتفع داخل الأسوار. ويخبرنا أحد الرحالة الفرنسيين، ويدعى سيمون سيمونيه، 1323م، أن الناس قد اعتادوا على صعود ذلك التل قبل تشييد برج المراقبة للتنزه واللهو واستنشاق الهواء وتأمل البحر، وهو ما سوف يمنع بعد تشييد البرج».

ويضيف عبد الباسط: «أقدم مخطط وصل إلينا لهذا البرج كان لرحالة إيطالي يدعى هوغو كومنيللي، 1472م، الذي يذكر أن البرج الذي ينتصب في الهواء مقام على تل من عمل البشر لكي يرى المسافرون المدينة التي أقيمت على أرض منبسطة. أما القائد العثماني بيري ريس الذي قدم للمدينة في عهد سليمان القانوني، 1553م، فيذكر أنه كلما تقدمنا من المدينة من ناحية البحر يظهر لنا تل، على قمته يوجد برج، في ذلك الوقت تم رصد سفينتنا في البحر من خلال هذا البرج، الذي يمكن للسفن رؤيته من البحر، وهو موضوع متعارف عليه منذ قرون. وعن طريق هذا البرج يعلم ساكنو المدينة والقلعة عدد السفن التي تأتي من البحر، وعندما تدخل السفن للميناء، فإن المدافع تطلق استقبالا وترحيبا بها عن طريق البرج، والآن فإن هذا البرج أعلى التل في حالة خراب».

ويروي حسام أنه في زمن الحملة الفرنسية على مصر، 1798م، شيد الجنرال مارمون قائد الحامية الفرنسي أعلى التل حصنا منيعا تخليدا لذكرى القائد العسكري كافاريللي دوفالجا، الذي قتل في أثناء حصار عكا بفلسطين، وأصبح هذا التل معروفا بداية من 28 يونيو (حزيران) 1799م باسم برج كافاريللي، ثم حديثا باسم حصن أو قلعة نابليون. وخلال عصر محمد علي تم إدخال برج كافاريللي ضمن منظومة الدفاع الجديدة للمدينة، 1834م، وأصبح مجهزا بستة مدافع وعدد من المتاريس. ومع الاحتلال البريطاني لمصر، 1881م تم تدمير حصن كافاريللي، ثم تحول المكان إلى مركز للمراقبة الساحلية وأعيد بناء البرج عام 1936، وأصبح هناك مقر لقيادة مراقب الميناء البريطاني ومساعده المصري».

وبكل الزخم التاريخي الذي تزخر به منطقة كوم الناضورة إلا أنه مجهول تماما بالنسبة لأهالي الإسكندرية رغم أنها كانت قديما تضم مجموعة من البازارات العربية التي حل محلها حاليا مصانع وورش تجفيف اللحوم (البسطرمة)، التي عمل بها أبناء الجالية اليونانية والأرمينية، وكذلك صناعة المعكرونة التي اشتهرت بها الجالية الإيطالية، كذلك انتشرت صناعة المسبوكات النحاسية في منطقة شارع حمام الورشة المجاورة للتل، بينما عرف قديما تحت اسم ورشة الطوبجية.

وحول إغلاقها أمام الزائرين، يقول الأثري حسام: «للأسف غير مسموح بالزيارة، وأرجع ذلك لعدم التخطيط وعدم وجود رؤية مستقبلية لدى المسؤولين وسوء الإدارة والإهمال، فقد كان هناك مشروع لتطوير المنطقة عام 2005، وقدرت تكلفة التطوير بـ35 مليون جنيه، إلا أنه لم يتم سوى بعض التعديلات التي أُنفق عليها مليونان فقط ولم يُستكمل المشروع بعد ذلك».

وتقول الباحثة الأثرية د. يسرية حسني، الأستاذة بالمعهد العالي للسياحة والفنادق بالإسكندرية، لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف، المنطقة رغم أهميتها التاريخية التي تعود إلى العصر البيزنطي وتضم آثارا إسلامية لم توضع على الخريطة السياحية. وتبلغ مساحة المنطقة 6 أفدنة، وأهم المباني على التل هو البرج المثمن الذي يعود إلى عام 1926، وارتفاعه يبلغ 25 مترا، ويتكون من أربعة طوابق يربط بينها درج حلزوني من الخشب، ويفصل بين كل ضلع وآخر من الشكل المثمن للبرج دعامة بارزة من ثلاثة مستويات، ويفتح في جدرانه نوافذ معقودة، ويزخرف البرج مجموعة من الزخارف الهندسية مثل الأضلاع المتقاطعة والأطباق النجمية، ويعلو البرج شرفات مسننة».

وتستكمل: «وأيضا طابية كافاريللي التي تم بناؤها في عهد الحملة الفرنسية، ومرصد محمد علي الذي بني أعلى الطابية من الحجر الجيري والآجر ويتكون من حجرات، ويعلو البناء مرصد صغير مثمن الشكل، كما يوجد ثكنة للمأمور الإنجليزي وأخرى للمأمور المصري».

وتضيف: «منطقة كوم الناضورة مكتظة بالصهاريج الأثرية والحمامات الهامة، كما تضم منطقة أساكل الغلال التي تضم جزءا من سور المدينة القديمة، بالإضافة إلى جزء من بوابة تعرف باسم (باب الخوخة)، أي الباب الصغير، وتعود إلى العصر الإسلامي، ولا يوجد للباب مثيل بين أبواب مصر».