صراع القديم والجديد في إيطاليا

في معرض كلاوديو بيرينا

TT

يعرض كلاوديو بيرينا لوحاته في غاليري فانت دي سيمز في غرونوبل. هذا الفنان الذي ينتمي إلى الجيل الجديد من فناني الانطباعية والتعبيرية في إيطاليا. يجسد من خلال أعماله، القطيعة التي بدأت ملامحها تتضح بين القديم والجديد في إيطاليا.

والحق، أنه عرف عن إيطاليا وفنانيها، التصاقهم الكبير بمرحلة عصر النهضة المرحلة الفنية الكبرى التي غيرت وجه الفن مع عائلة ميدتشي. هذا البلد يمثل مركزا أساسيا للفن التشكيلي والفنون على شاكلتها. وإن كانت متاحفه هي طرقات مدنه، لناحية العمارة التي تحيل مدنه وقراه البعيدة إلى متاحف في الهواء الطلق. فإن متاحفه المغلقة تحوي على روائع من الفن التشكيلي الكلاسيكي المخزن فيها والمعروض، من كافة مراحله القديمة والمعاصرة. لكن بعيدا عن النمط الكلاسيكي، الذي له معجبوه ورواده وعباقرته. فإن المدرسة الانطباعية الإيطالية، لم تزدهر، فعليا، سوى في النصف الثاني من القرن العشرين. بعد أن غيبتها الأساليب التقليدية المتوارثة في الصنعة الفنية.

لا يوجد سبب حقيقي لغياب الانطباعية عن الفن الإيطالي، أقله، لغاية بدايات القرن العشرين، سوى ذلك الميل، الذي هو جلي الوضوح، في الذائقة الفنية، للمعلمين الكبار في الفن الإيطالي. غير أن ما كان نمطا سائدا قبلا، هو اليوم، اتجاه، يكرس تمجيد المدارس ذات الأنماط التقليدية الصارمة في معارضة شبه شرسة للمحافظة على التقليد. لكن وبما أن الفن، كما كل شيء في الحياة مضافا إليه حرية الاختيار، فإن بعض الفنانين الإيطاليين، نقضوا مبدأ الزواج الكاثوليكي مع المدرسة التقليدية، ميممين وجوههم، نحو مدارس، تتيح لهم التحرك بحرية، خروجا عن القواعد الذهبية في الصنعة. ولعل هذا الجانب، هو الذي أضاف إلى المدرسة الفنية الإيطالية غناها المعاصر. ففي إيطاليا اليوم، تختلط المدارس الفنية ببعضها البعض، لتشكل لوحة موزاييك كبيرة، تؤكد غنى التجربة الفنية الإيطالية وبعدها وتراثها، وهو ما يعد لزاما، الظهر الذي تستند عليه الأفكار التطويرية التي يتعداها بعض الفنانين الجدد منهم والمخضرمين لبث الروح فيها ولتأكيد المؤكد الذي يدل على أصالة وتراث غنيين.

والحق أن التطوير في الفن، باعتباره علامة تقدم ورقي، يحتاج إلى جهود انقلابية على الأسس التقليدية الصارمة التي ذكرناها قبل قليل. فدون نفس انقلابي، لا يمكن بأي حال من الأحوال التطوير. فقط الثورات هي ما يمكن أن يغير السائد والراكد والمستقر في الفن كما في غيره. وهذا النفس الانقلابي الثوري على المفاهيم التي لا تزال شبه مستقرة في المدرسة الفنية الإيطالية، لم يحتج فقط إلى فنانين تعهدوا ذلك أمام أنفسهم والفن بقدر ما كان يحتاج إلى جيل من الفنانين قادر على تغيير الصورة النمطية التي يتمتع بها الفن الإيطالي، لكن، دون نقض الأسس. أي دون تشويه الحقائق التي أرساها فنانون كبار من أمثال باولو فينشينزو وأولاده لوقا وجيوفاني في القرن الرابع عشر مع طريقتهم في رسم الأيقونات الخاصة بالكنائس أو الرسم «اللاهوتي» إلى مايكل أنجلو الذي حقق أعاجيب فنيه بصيغة المفرد إلى دافنشي الذي لا تزال لوحته الموناليزا، أهم عمل فني في تاريخ الفن قديمه وحديثه. وصولا إلى القرن التاسع عشر مع التحولات الأولى في المدرسة الانطباعية مع إيبوليتو كافي الذي رسخت لوحاته التصويرية عن مصر النظرة الفنية للمدرسة الانطباعية التقليدية التي أفادت الفكرة الاستعمارية والاستشراقية وحملت معها آثار التأثر بالجيش الكبير من الفنانين الذي اصطحبه نابليون بونابرت لرسم كل شيء في مصر أثناء حملته الشهيرة. مرورا بلا شك بأحد عباقرة المدرسة الانطباعية الإيطالية تريسي ألبيرتو الذي تعد رائعته عن قناة السويس في قبل افتتاحها من أهم الأعمال الفنية التي صورت تلك المنطقة من مصر بتقنية مذهلة تسمى رؤية الطائر.

هذا التاريخ يؤكد أن المدرسة الفنية الإيطالية، لم تنفتح فقط على مدارس وأساليب فقط، بل حملت جينات تطورها كأي مدرسة أخرى من المدارس العريقة في الانطباعية مثل الروسية والفرنسية.

غير أن القرن العشرون شهد تحولات كبيرة داخل المدرسة الانطباعية، كانت قد افتتحت في منتصف القرن التاسع عشر. لكنها لم تصل بشكل أكيد إلى المدرسة الفنية الإيطالية في ذلك الوقت الذي كانت فيه هذه المدرسة، تتمسك بالأسس التقليدية ولا تزيح عنها. إلا أن القرن العشرين حمل بذور الشقاق مع الانطباعية التقليدية فتكرس هذا الشقاق، جليا، في النصف الثاني منه مع مجموعة كبيرة من الفنانين الذين دأبوا على التغير بشكل بطيء دون استفزاز للتقاليد والرصانة.

يعتبر كلاوديو بيرينا، من العلامات الكبيرة في الانطباعية المعاصرة في إيطاليا. فاللوحة التي ينجزها بيرينا، لا تتألف من موضوع واحد، كما درجت العادة في الانطباعية. بل من مجموعة تيمات يمكن لها ببساطة أن تمثل الثقافة الإيطالية التقليدية بمعناها الأشمل. إذ لا يكتفي، هذا الفنان الذي ينتمي لجيل الثمانينات، بتشكيل لوحته من المشاهد الطبيعية ونقلها كما يفضل عادة في هذه المدرسة، إنما، يذهب إلى دمج الانطباعية بالتعبيرية بالتجريدية في عمل واحد يكاد يختصر كل هذه المدارس بخلطها في بناء واحد يضيع معالم كل واحدة منها لصالح الأخرى. هكذا تبنى الانطباعية على جسد التجريدية ثم تبنى التعبيرية على جسد المدرستين معا لتؤلف تشكيلا قلما يمكن التوصل إليه لدى الفنانين المعاصرين، سواء في إيطاليا أم في غيرها. أما الجانب الأهم في عملية الخلط هذه، التي تقف على حدود الفوضى إن شئنا توصيفا دقيقا لها، فهي أن التوليف الذي يعمل عليه بيرينا، يؤلف في النهاية المطاف لوحة مكتملة الانتماء لبلدها.

نجد في لوحات بيرينا، إيطاليا بشحمها ولحمها، بموسيقاها ورقصها، بهندستها المعمارية وهندسة الخالق للطبيعة، في ألوانها التوسكانية وفي حجارة فينيسيا الأقرب إلى أحلام العشاق وأوجاعهم ومغامراتهم، عبق تاريخ الرومان وأمجادهم التي تحولت إلى حجارة عالية القام، روح إيطاليا. ولعل في هذا الجانب من لوحات هذا الشاب الحالم، هو الذي يضعنا على قطار العودة إلى ما سبق من صراع بين القديم والجديد في المدرسة الإيطالية.

ذلك أن لانتماء اللوحة عاملا مهما في هذا الصراع القائم على المهارات، فالمعلمون من أتباع التقليد والحفاظ على الإرث الفني للانطباعية القديمة، كانوا دوما يعيبون المجددين بأنهم غيبوا روح إيطاليا من أعمالهم، التي بدت وكأنها كوزموبوليتية أكثر منها وطنية بدم صاف ورقراق، في وقت دأب الفنانون الجدد على الدوام بوصف الفن أنه رسالة عالمية لا تحدها حدود أو لغة أو عوالم. وهذا الصراع، هو ما جعل من المدرستين تتكاملان من حيث وجودية كل واحدة منهما. مع بيرينا، الأمر مختلف تماما، لا يمكن وصف الجديد الذي يأتي به هذا الفنان الشاب، علي أنه جديد خالص ولا قديم راسخ، إنه تلاعب لوني ولفظي إن شاء المتلقي يجمع بين كل شيء في شيء واحد هو رحيق انتمائه لإيطاليا.

في لوحات بيرينا، جانب يتعامل مع المكان بحميمية وبذكاء، قليلا ما شاهدنا إيطاليا جميلة إلى هذا الحد. في الفن الذي لا يمكنه أن نقل الأحاسيس، تكون إيطاليا غالب الوقت كومة حجارة يتجول بينها أسود وجنود وأباطرة وباباوات، الأشجار هي أشجار لحدائق إمبراطورية، الأبنية شاهقة تسكنها الفخامة، لم تطلعنا تجربة على جمالية الريف الإيطالي كما ينقلها بيرينا. قرى تلمع صباحا تحت شعاع الشمس الذي يغيب بين الألوان ويسيطر عليها معا. أحصنة ترقص على إيقاع أرصفة قديمة بخلفية ريفية يسيطر على نسج الغابات المتوسطية بخضرة تكاد تختفي من كثرة ألوانها. ولعل ما يجعل من لوحات هذا الشاب المتمرد على التقليد، مميزة. هو أنها ترسم لنا إيطاليا كما لم نرها من قبل.