الخط العربي ينعش بستكية دبي التراثية

خالد الجلاف يدشن «فسيفساء الحروف» في مجلس غاليري

خالد الجلاف يشرح أبعاد لوحاته
TT

تزداد أعداد السياح الأجانب لزيارة منطقة البستكية التاريخية بدبي يوما بعد آخر. فقد حرصت إدارة التراث العمراني على تهيئتها وترميمها وتأهيلها لتكون قبلة للزوار من أنحاء العالم. ولكي لا تكون هذه المنطقة التراثية النادرة في دبي، جامدة ودون حراك، أنشأت إدارة التراث العمراني العديد من الغاليريهات الفنية التي أخذت بالانتشار بين أزقتها الضيقة في الآونة الأخيرة. قد لا يصدق الناس أن الخط العربي والرسم والعروض الأخرى مثل السجاجيد والمشغولات اليدوية الشعبية هي أحد محرّكات هذه المنطقة، لكن إقبال الزوار يدل على ذلك.

وفي هذا الإطار، لا يزال معرض «فسيفساء الحروف» للخطاط الإماراتي خالد الجلاف في مجلس غاليري الذي يستمر حتى نهاية الشهر الجاري، أكبر دليل على جذب السياح والزوار إلى روائع الخط العربي الإسلامي إذ يجسد هذا الفنان استيحاءه لكل الموروث العربي الإسلامي في أعظم تجلياته من قصر الحمراء إلى سمرقند إلى الآيات القرآنية والحكم والأشعار والحكايات. تكشف عناوين لوحاته عن عمق هذا الفن ومضامينه المتنّوعة: حسن التلاقي، العلم وسيلة إلى كل فضيلة، النجاح والفشل بالأعذار، هدى الله، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، ولا غالب إلا الله، ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام، الله فسيفساء الشتاء، والربيع والصيف والخريف، ابتهال، دبي دانة الدنيا، أربع تؤدي إلى أربع، قوة الاتحاد، اللهم لك الحمد دائما ولك الشكر قائما، الحسنة والسيئة. هذه كلها عناوين لوحات مزجت الألوان بالموضوعات الروحانية، وهي خلاصة أسفار الخطاط إلى البلدان والثقافات والحضارات، متتبعا الخطوط التي رسمت الفن العربي الإسلامي.

يتحدث الخطاط الإماراتي البارز عن انجذابه إلى قصر الحمراء بقوله «جذبني في قصر الحمراء كثافة الشعر الموزع بين جدرانه، والذي ترك بصماته على كل حجرة شُيد به هذا القصر. تجد في قاعة الأخوين ديوان شعر، وخطوط الثلث الأندلسي، إذ عبّرت عنها بالفسيفساء وأضفت عليها الذهب لإعطائها القيمة المعنوية، فهو غالي الثمن ولا يصدأ لأن هذا القصر يعبّر عن عظمة الفنان العربي. وقد اقتبست بعض لوحاتي من الزخارف الخطية الجبسية الموجودة في ذلك القصر بأسلوبي وألواني الخاصة». تتركز الفسيفساء في لوحته «الله فسيفساء الفصول» على خط لفظ الجلالة، بأسلوب مختلف تشكل منظارا وأفقا روحيا.

هناك المناجاة، وهي قصة اللوحة، لها علاقة بتعرض الخطاط لحالة مرضية، وذهب إلى ألمانيا للعلاج، ووجد الألوان المختلفة التي تعبر عن حالات الإنسان، وهي جزء من سيرته الذاتية. «يستقي المضمون في الفصول الأربعة من عظمة ثقافتنا وفي تقديرنا لرب العالمين، نناجيه، فتجد الألوان المختلفة: البنفسجي للشتاء، والأخضر للربيع، والبرتقالي للصيف، والبني للخريف، إنها أبعاد رمزية في التعبير عن الخالق الموجود في كل الفصول».

مما لا شك فيه أن لوحاته تأثرت بالتراث بشكل عميق لأن الفنان في طبعه انعكاس لبيئته، وهو متفاعل مع مجتمعه وجذوره، لذلك تعكس أغالب أعماله انبهاره بفن الأجداد، واللوحة الخطية المعمارية والحجر المزجج، وهذه فسيفساء موروثة من الثقافات والمعتقدات المتراكمة. يرى الفنان هذه الفسيفساء عبر التنوع الثقافي واختلاف الأذواق والحضارات. ويغضب الخطاط الإماراتي عندما يُقال له أن بعض أعماله «تزيينية»، فيجيب بكل صرامة «الفن الإسلامي برمته فن تزييني وهذا لا ينتقص من قيمته، وكذلك العمارة الإسلامية، فتجد الحكمة والفخامة، لإظهار عظمة الدين والحكمة عند العرب. لست فنانا حرفيا ألبي طلبات السوق كما نقول، على سبيل المثال، في لوحة (النجاح بالنتائج والفشل بالأعذار) هي عبارة تنظيمية إدارية، لكنني وضعتها في شكل (الطغراء) أي تواقيع السلاطين، شكلا ومضمونا. وكذلك في لوحة (ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام) وهو شعر المتنبي المعروف. وكذلك في سورة الرحمن (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) حاولت أن أبين ذلك في الخلفية المبهرجة للتعبير عن عظمة هذه الآية».

يتعامل خالد الجلاف مع الآيات القرآنية والحكم والقصائد الشعرية والأحاديث النبوية باستخدامات لم يتطرق لها الفنانون الآخرون، فهو يؤمن بأن الفن ليس استنساخا بل هو الذهاب إلى أبعد حد ممكن من الإبداع واستخدام الحديث في التعبير عن القديم، لذا فهو يركز على استخدام رقائق الذهب والفضة والنحاس، بالأسلوب القديم، ويعتبرها من مواده الأولية الأساسية، وذلك من أجل التعبير عن فخامة الموضوع.

وهو ينتقل من الموضوع التراثي إلى الموضوع الوطني بكل سلاسة، ولكن ليس بطريقة مباشرة، كما هو الحال في «قوة الاتحاد» حيث يعبّر عن عناصر القوة من خلال الاستشهاد بـ«واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» التي تنير الطريق أمام الإمارات السبع، لذلك نرى اختيار قلعة من كل إمارة، والقلاع ترمز إلى القوة والشدة والحماية، فما بالك إذا اتحدت سبع قلاع في قلعة واحدة، وهي تشكل خلفية اللوحة. ومنها ينتقل إلى الشعر، كما هو الحال مع خط قصيدة الشاعر الإماراتي عارف خاجة «دبي دانة الدنيا وعشق ما له آخر. وأمجاد مسطرة ترى في أمسها الحاضر». وهي تعبر عن حبه الكبير لإمارة دبي التي ترعرع فيها، وتنفس هواءها.

من أبرز محطات تجربته التي تقترب من الثلاثين سنة بدأها بمرحلة التقليد ومن ثم المحاكاة ومن بعدها التعلم في مجال الخط التقليدي. بعدها جاءت مرحلة المشاركات في المعارض الفنية المختلفة بدءا من عام 1990، وتلت بعدها مرحلة البحث عن الذات والأسلوب المختلف من خلال التعمق أكثر في مجالات الفنون المختلفة بهدف زيادة المخزون المعرفي. وذلك من خلال تقنيات الرسم المختلفة وإتقانها والاطلاع على التجارب الرائدة في مجال الحروفية العربية والعالمية إلى مرحلة إيجاد أسلوب خاص به يمزج ما بين اللون والخط العربي والعمارة الإسلامية والعربية. وهو يطمح إلى تأسيس أسلوب إبداعه المرتكز على المعشوق الأول، الخط العربي: الإطار والفكرة والمحسنات الجمالية المصاحبة من شفافية اللون واختيارات التنسيق والتكامل بين هذه العناصر.

المشروع الأساسي الذي يعمل عليه الفنان منذ بداياته هو إظهار مدى ما وصل إليه الفنان المسلم والعربي منذ الرسالة النبوية وحتى الآن في التأصيل لفن الجمال وإمكانات هذا الفنان وقدراته كابن البيئة العربية والإسلامية.

كيف يستطيع الفنان تحقيق ذلك أو كيف يقيم التوازن بين عناصر الخط واللوحة؟

هنا لا بد من معرفة رؤيته في هذا المجال، حيث يقول «فيما يتعلق بالتوازن بين عناصر اللوحة عندي، فإن النص والمعنى يلعبان دورا أساسيا في اختيار التكوين والكتل واللون وكذلك البيئة التي نشأت فيها وهي بيئة الإمارات حيث يتعلق التوازن باختيار النص المناسب وعادة ما يكون نصا قرآنيا أو حديثا نبويا أو حكمة عربية أو أبيات شعرية».

كما هو معروف إن الخط العربي فن قائم بذاته أبدع فيه الفنان المسلم حتى اكتسب احترام كافة متذوقي الفن وممارسيه كونه يمثل كافة عناصر اللوحة الفنية المتكاملة من خلال استخدام الحرف والجملة وكتابتها على القاعدة السليمة والتراكيب ذات المقاييس الجمالية والموزونة. أما الحروفية فهي إطار فني جديد طرأ على الساحة العربية متأثرا بالتغريب في الفن والتقليد لما هو غربي أو شرقي، فبدأت المحاولات بإقحام الحرف العربي بما يتميز به من جمال. للخطاط رأي في ذلك، كما يقول «هناك تياران الأول قاعدي وأصولي يبحث في الإرث التاريخي لهذا الفن ومدارسه المختلفة لا يكاد يحيد عنه قيد أنملة والتيار الآخر مفرط في الحداثة بحيث أفقد الفن العظيم هيبته من خلال التقليد الأعمى غير مدروس وأنا أحاول التقريب بين كلتا المدرستين».

من المعروف أن الخط الإماراتي قطع شوطا كبيرا، فما هو رأي الخطاط: «يعيش فن الخط في الإمارات اليوم عصره الذهبي على مرّ العصور حيث الاهتمام به على أعلى المستويات، فدولة الإمارات تحتضن المجلة الوحيدة لفن الخط العربي في العالم وأعني مجلة (حروف عربية) والتي أتشرف بإدارة تحريرها كما أن مؤسسات كوزارة الثقافة وهيئة الثقافة بدبي ودائرة الثقافة بالشارقة وندوة الثقافة والعلوم بدبي، كلها مؤسسات رائدة لها بصمات مقدرة وجليلة في خدمة هذا الفن الجميل من رعاية لمعارض وبيناليات متخصصة لفن الخط إلى رعاية معاهد لتعليم هذا الفن، وتنظيم معارض وورش خطية في دول العالم المختلفة. كل هذا وأكثر تقدمه دولتنا لفناني ومتذوقي هذا الفن، فأصبحت الإمارات ولله الحمد، قبلة الخطاطين حول العالم».

وعن سبب اختياره لمنطقة البستكية ليعرض فيها لوحات معرضه الحالي، يؤكد الفنان خالد الجلاف أن «كثيرا من السياح الأجانب يزورون هذه المنطقة التراثية من أجل التعرف على الحياة الثقافية والروحية لهذا البلد، من خلال المعارض الفنية التي تُقام في هذه المنطقة، إذ لا بد علينا كفنانين أن نقدم لهم الفنون القادرة على مواكبة التقدم العمراني والاقتصادي في الإمارات. والفن لغة عالمية، تحرّك دواخل الإنسان حتى لو جهل اللسان العربي، وهذا ما يفسر الإقبال الشديد على زيارة هذه المنطقة التراثية التي تبقى معزولة وباهتة دون الغاليريهات الفنية المنتشرة في أزقتها وحاراتها».