صناعة القفازات في غرب أوروبا.. مهنة أوشكت على الانقراض

ما زالت تعتمد على المهارة اليدوية

صناعة القفازات.. حرفة عريقة تواجه ورشها التقليدية مستقبلا غامضا
TT

تعدّ صناعة القفازات («الكفوف» أو «الجوانتيهات») من آخر الصناعات التي لا تزال تعتمد على دور المهارة التصنيعية اليدوية، حتى في غرب أوروبا، حيث تهيمن الآلة على السواد الأعظم من المصانع. غير أن هذه الصناعة التقليدية تواجه مصاعب تهدد استمرارها بالشكل الذي نشأت به وتطوّرت.

وفي تحقيق لوكالة الأنباء الألمانية من مدينة ماغدبورغ، بشمال ألمانيا، التقى مراسل الوكالة صانع القفازات كلاوس شميت (78 سنة)، الذي يعمل في مصنعه العائلي منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، والذي تخصص في صنع قفازات ليد غريبة سواء لجهة ضخامتها أو صغرها أو أوصافها. في حين غطى التلفزيون البريطاني في إحدى حلقاته أخيرا جانبا من تاريخ أحد أشهر مصانع القفازات في غرب بريطانيا، حيث أكدت إحدى المشرفات على الإنتاج في المصنع على محورية الدور اليدوي في استمرار تميّز هذه الصناعة.

مهنة صنع القفازات مهنة قديمة جدا، وتشير المعلومات التاريخية إلى أن إنسان الكهوف كان يكسو يديه بكسية شبيهة بالقفازات البسيطة التي تفصل الإبهام وحده عن باقي الأصابع، والتي لا تزال تصنع اليوم خصوصا من الصوف. وبمرور السنين تطور تصميم القفازات وتعددت مواد تصنيعها وتصاميمها، فشملت بالإضافة إلى الجلود، الصوف والساتان وغيرهما، كما أنها عرفت التلوين والترصيع بالأحجار الكريمة. وفي حين طغت على الأسواق القفازات المصنعة آليا، ظلت قلة قليلة من المصانع والورش المتخصصة بالتصنيع الحرفي اليدوي الدقيق، ومنها ورش تصنع حسب الطلب.

ومما تذكره أسفار التاريخ عن القفازات، أورد الشاعر الإغريقي الشهير هوميروس في ملحمة الأوديسة أن إحدى شخصياتها لايرتيس كان يرتدي قفازا بينما كان يتجول في حديقة داره لكي يتفادى الأشواك. ولاحقا وردت إشارات إلى القفازات في التراث الروماني. كما تشير بعض الروايات التاريخية إلى أن ملك إنجلترا هنري الثاني بعد وفاته عام 1189 دفن وهو يرتدي قفازا، ولاحقا تبين أن الشيء نفسه حصل مع الملك جون عند فتح قبره عام 1797 والملك إدوارد الأول عند فتح قبره عام 1774.

وبحلول القرن الميلادي الثالث عشر أخذت النساء تستخدم القفازات كمظهر أناقة، بعدما كانت حكرا على الرجال لأسباب عملية بحتة. وصارت قفازات النساء تصنع من الحرير وأقمشة أخرى وكذلك من الفراء، وبعضها يصل طوله إلى المرافق. وأسست خلال القرن ذاته جمعية صناعية متخصّصة بالقفازات في العاصمة الفرنسية باريس.

غير أن القفزة الأكبر في تاريخ هذه الصناعة الحرفية جاءت في بريطانيا خلال عهد الملكة إليزابيث الأولى في القرن السادس عشر، مع القفازات المطرّزة والمرصعة. وأبدع صانعو باريس، من جهتهم، بصنع قفازات جلدية مطيبة بالعطور والمسك والعنبر والزباد. وفي خط مواز، تطور صنع القفازات المنسوجة من الصوف لطبقة أدنى من المستهلكين، وتحت إشراف جمعية صناعية مختلفة. وفي القرن التالي، أي القرن السابع عشر حظي استخدام جلد الدجاج الطري بشعبية واسعة في مجال صناعة القفازات. كما انطلقت من غرب آيرلندا فكرة صنع القفازات من جلود العجول. واليوم تستخدم القفازات من شتى الأنواع ولمختلف الأغراض في العديد من المجالات، من الرياضة ولا سيما التزلج وقيادة السيارات، إلى الطب والجراحة، مرورا بعالم الأزياء الراقية.

في بريطانيا بالذات اشتهرت منطقتان بصورة خاصة بصنع القفازات هما مدينتا يوفيل بجنوب غربي إنجلترا، وووستر بغرب إنجلترا. وقد عرفت يوفيل هذه الصناعة خلال القرن الثامن عشر فأسهمت في نمو المدينة، وبلغ عدد المصانع والورش المتخصصة التي أسست في المدينة ذات يوم 32 مصنعا. ونافست مكانة يوفيل في هذا المجال مدينة ووستر، الشهيرة أيضا بصنع الخزف منذ عام 1751. ففي أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر تبوأت ووستر مكانة بارزة في صناعة القفازات، وتقدّر الدراسات أنه كان يعمل في ورشها ومصانعها البالغ عددها، في تلك الحقبة، تحديدا بين عامي 1790 و1820 نحو 150 ورشة ومصنعا يعمل فيها نحو 30 ألف حرفي، وهو ما كان يشكل نحو نصف إجمالي حرفيي صنع القفازات في عموم البلاد.

ولكن في كل من يوفيل وووستر تراجعت مكانة الصناعة، وبحلول منتصف القرن العشرين ما عاد في المدينتين سوى عدد قليل من المؤسسات الصانعة. ولعل من أبرز هذه المؤسسات اليوم شركة «ساوثكوم غلوفز» في يوفيل، وهي مؤسسة عائلية يديرها الجيل الخامس من العائلة التي تملكها، ولقد تخصصت بتصميم القفازات وتصنيعها يدويا منذ عام 1847، وهي تملك اليوم وتدير مصنعين ومدبغة جلود يعمل فيها فريق من الحرفيين الأوفياء والخبراء. وهنا لا تزال أعمال القطع والتفصيل تجري يدويا، وتبيع ساوثكوم غلوفز إنتاجها تجاريا للسوق، وكذلك لمؤسسات مثل الشرطة والإطفاء والقوات المسلحة.

أما في ألمانيا، وحسب تقرير وكالة الأنباء الألمانية، فتح كلاوس شميت ووالده ورشتهما العائلية في ماغدبورغ، عاصمة ولاية سكسونيا - آنهالت التي كانت حينها في ألمانيا الشرقية، عام 1955. وكانت نسبة كبيرة من صانعي القفازات في ذلك الوقت تتركّز في مدينة يوهان غيورغ شتات، بألمانيا الشرقية سابقا. ومع سقوط «الستار الحديدي» المجسد بـ«جدار برلين» في عام 1989، تراجعت حظوظهم مع وصول قفازات جاهزة أرخص سعرا من الغرب. ومن ثم أخذت المهنة تحتضر ببطء في ألمانيا، ولم يعد اليوم في طول ألمانيا وعرضها سوى 12 صانع قفازات فقط تخصصوا بصناعة قفازات حسب الطلب.

كلاوس شميت يصنع اليوم «قفازات حسب الطلب» لزبائنه في ورشته بماغدبورغ، ويقول إنه يتعامل مع «كل أنواع الزبائن لكن كثيرين منهم لديهم أيدٍ من أنواع غير شائعة، فبعضهم لديه أيدٍ كبيرة للغاية، والبعض الآخر أيد تفتقر لإصبع أو أكثر، أو تكون أصابعها ذات أشكال غير عادية»، ويتابع أن بعض زبائنه وعددهم قليل «أيديهم حساسة للغاية إلى لدرجة تحول دون ارتدائهم القفازات الجاهزة المطروحة في الأسواق». وبالتالي، عادة ما يطلب من شميت طلبات خاصة بأوصاف ومزايا خاصة.

وحقا، تفيد مانويلا شنيمان، التي تعمل في شركة بالعاصمة الألمانية برلين متخصصة ببيع معدات تقويم العظام، وتعد شركتها إحدى 30 شركة في ألمانيا ترسل طلبيات إلى شميت، عن ورشة شميت في ماغدبورغ «في الحقيقة، لا نعرف أحدا غيره يفعل ما يفعله». وتشرح شنيمان أن زبائن شركتها، وبالتالي زبائن شميت، من الذين تضرّرت أيديهم في حوادث سير أو في أماكن العمل أو لديهم أصابع مبتورة بسبب المرض.

وبلهجة الحرفي الخبير يشرح شميت، وهو يرتدي مريلة سوداء داخل ورشته، أن «القفازين في اليدين مثل هذين يجب أن يكونا مناسبين تماما ومصنوعين جيدا لأقصى حد.. فإذا كان القفاز ضيقا للغاية أو يسبب احتكاكا فحينها يمكن أن يؤذي مرتديه».

ويحمل شميت في يده قطعة سوداء رطبة من جلد حمل كبيرة مثل ممسحة الأرجل، وهو على أهبة البدء بتفصيل زوج من القفازات لسيدة فقدت خنصرها اليمنى. وهو يبدأ العمل كما لو أنه يفصّل أي زوج من القفازات، وكما يفعل صانعو القفازات منذ مئات السنين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المهمة تحتاج إلى قوة عضلية كبيرة، إذ يفرد شميت جلد الحمل على قطعة خشب وينثر عليه مسحوق (بودرة) «التالك»، مفسّرا بأن «المسحوق يسمح لي برؤية الأماكن العائبة على الجلد».. والقصد تلك البقع في موضع إصابة الحيوان نفسه عندما كان حيا. ثم يقول «يجب أن تفحص الجلد بعناية. إذ لا يرغب أي شخص باقتناء زوج من القفازات به مناطق عائبة».

ونظرا لكون المهنة في تراجع فإنها تواجه معوقات واضحة.

إذ يشير شميت إلى أنه «لا توجد اليوم أدوات إضافية متاحة في الأسواق»، بينما يقف أمام آلة ضغط كبيرة تقطع أشكال الأصابع من الجلد. ثم يشرح «.. هذه الآلة مصنوعة خلال فترة حكم الإمبراطور فيلهلم»، أما المقص الذي يستخدمه في قطع الجلود فمصنوع قبل 60 سنة. ويلتقط شميت المقص ويقطع قطعا صغيرة من الجلد، هي التي ستشكل المسافات بين الأصابع في الشكل النهائي لزوج القفازات. وبعد ذلك، إما تحاك القفازات مع بعضها يدويا أو يجري إكمال الخياطة على آلة الحياكة في ورشة شميت. ومع هذا، تبقى القفازات بعيدة عن «الاكتمال» في هذه المرحلة. ذلك أنه قبل أن يتسنى ارتداء القفازات يجب أن «تشكل» أولا. وهذا المصطلح يستخدمه صانع القفازات عندما تسحب القفازات على قطعة حديد ساخنة، ولا يمكن ارتداء القفازات قبل أن تأخذ شكلها النهائي.

اليوم يصنع شميت، الذي يتوقع أن يتقاعد في غضون سنتين، نحو 800 زوج من القفازات سنويا. وعن الأسعار، فاعتمادا على مدى جودة صنعهما والبطانة والزخارف، يمكن أن يكلف شراء زوج القفازات ما يصل إلى 200 دولار أميركي (144 يورو). حسب شميت «هذا هو أقصى حد للعشاق الحقيقيين للقفازات»، أما المتوسط فيبلغ نحو 60 دولارا للزوج. وفي حين تفضل النساء القفازات المصنوعة من جلد الحملان الناعم أو جلد الماعز الراقي، يختار الرجال عادة قفازات مصنوعة من جلد الغزال.