قصر فيرساي يفتح حمام ماري أنطوانيت للزوار

ملكة فرنسا كانت تخجل من نزع ثيابها أمام وصيفاتها فتستحم مرتدية فستانها

مكنت إدارة قصر فيرساي من إعادة الصالة التي كانت مخصصة لاستحمام الملكة ماري أنطوانيت إلى سابق عهدها («الشرق الأوسط»)
TT

بفضل تبرعات فرنسية وأوروبية بلغت 200 ألف يورو، تمكنت إدارة قصر فيرساي من إعادة الصالة التي كانت مخصصة لاستحمام الملكة ماري أنطوانيت إلى سابق عهدها، غير أن كل الديكور الجميل الموجود فيها ليس سوى نسخة من ورق بالحجم الطبيعي، تفتق عنها ذهن مهندسة بارعة جيء بها من بلجيكا. وحتى الشخصيات النسائية الثلاث الواقفات في الصالة ليست أكثر من دمى ورقية بالحجم الطبيعي، كما أن الستائر الباهرة المصنوعة من الدانتيل هي نوع من خدعة بصرية لأنها من الورق المطرز بنقوش سماوية اللون.

اليوم صار في إمكان الزوار والسياح التسلل إلى الأجواء الحميمة للملكة التي عاشت في القرن الثامن عشر وذهب ترفها مثلا عبر عصور تالية. لكن الزيارة لا تندرج ضمن تلك الأبهاء والصالات والحدائق المفتوحة لعموم الزوار، بل لا بد من الالتزام بمواعيد محددة مسبقا لفتح الصالة ومشاهدة «الإخراج» الجديد لها بعد أن ظلت مغلقة منذ الثورة. إنه الحمام الذي لا يوجد ما يماثله داخل القصر إلا حمام الملك، ذلك أن سكانه كانوا يغتسلون في السواقي، غالبا، ويقضون حاجتهم في الغابات المحيطة به. ويلاحظ الزائر أن كل النقوش والرسوم التي تزين أثاث صالة الاستحمام مستوحاة من الطبيعة وسواقي المياه، كما أن شباك الصالة المطل على ساحة القصر المسماة بالرخامية كان، في أيام الملكة، قد أحيط بحاجز مرتفع لكي لا تتسلل النظرات الفضولية إلى الداخل. لقد تركت ماري أنطوانيت الطوابق العليا المزدحمة بالمساعدين والوزراء وارتاحت إلى جناح خاص تمت تهيئته لها، عام 1782، في الطابق الأرضي لتعيش ساعاتها الحميمة بعيدا عن ضجة البلاط وبروتوكولاته.

ولدت فكرة إعادة الروح إلى حمام ماري أنطوانيت في ذهن مصمم الأزياء الفرنسي العجوز هوبير دو جيفنشي. وهو الذي اقترح أن تقوم إيزابيل دو بروشغريف، الخبيرة البلجيكية المتخصصة في صناعة الأثاث والفساتين من الورق، بهذه المهمة. وقد وجدت المصممة إلهامها في الوثائق والرسوم الخاصة بذلك العصر. ويمكن للزائر أن يرى الملكة جالسة أمام طاولة زينتها وحولها كبيرة الوصيفات مدام دو شابمان وخادمة ثانية. وبخلاف الطاولة والكرسي والرفوف فإن كل ما في المشهد مصنوع من ورق، بما في ذلك المغطس النحاسي وغطاء السرير والمرايا والمشعلان الكبيران. ولعل ما يفتن السياح هو ذلك الانسجام بين ما هو حقيقي وما هو كاذب. إن نجاح المصممة يكمن في انتباهها إلى التفاصيل الصغيرة التي يصعب تصديق كونها مصطنعة وتنسي من يراها أنها من الورق البسيط.

ماري أنطوانيت، الملكة المترفة التي ولدت في النمسا ثم تزوجت وهي في الرابعة عشرة من العمر ملك فرنسا لويس السادس عشر، اشتهرت بعبارة ألصقت بها زورا، وهي أنها سمعت جموع الفلاحين الفقراء يطالبون بالخبز فقالت: «لماذا لا يأكلون الغاتوه؟». لكن شهرتها الحقيقية كانت في نهمها وإقبالها على ملذات الحياة وعنايتها بمظهرها. لقد كان زوجها، عندما اقترنت به، فتى غرا يكبرها بسنة. لذلك فرضت سيطرتها عليه وكانت تتدخل في تعيين الوزراء بل وفي إقالة أولئك الذين لا يلبون نزعتها في الإنفاق وطلباتها التي تحتاج الكثير من المال.

وعلى العكس من زوجها الذي لم يكن يحب الاستحمام، أحبت ماري أنطوانيت النظافة وكانت تهتم بنفسها بشكل يومي وتتعامل مع عطارها الخاص، المسيو فارجون، لكي يهيئ لها خلاصات الزيوت العطرية التي تحبها. وكانت تحرص على إضافة تلك الزيوت إلى ماء النهر الذي تملأ به مغطسها، مع 3 أكياس صغيرة من الأملاح ورغوة الصابون المعطر بزهر اللاوند. لكن الملكة الجميلة كانت تخجل من خلع ثيابها أمام وصيفاتها، لذلك جاء في سيرتها أنها كانت تستلقي في مغطسها مرتدية فستانا رقيقا من القطن مقفولا حتى العنق. وحال خروجها من الماء، تهرع إليها الوصيفات بمناشف كبيرة لتغطيتها. كما أن شباك الصالة المطل على الساحة الخارجية للقصر قد أحيط بحاجز مرتفع لكي لا تتسلل النظرات الفضولية إلى الداخل. كانت الملكة الوحيدة التي فرضت ذوقها على قصر فيرساي، ومع هذا فقد ضجرت من أجوائه ومن تقاليد البلاط ومكائد الحاشية واختارت، بالإضافة إلى جناحها في قصر فيرساي الكبير، أن يكون لها «ملاذها» الآمن الخاص في قصر صغير مجاور تحيطه الحدائق والنافورات هو «التريانون». لقد أهداها زوجها هذا القصر عام 1774، ليكون الواحة التي تأخذ فيها راحتها وتعيش كما تريد وتستقبل أصدقاءها من ممثلين وموسيقيين ومغنين ورسامين ومصممي أزياء.

في عام 1980 جرى ترميم جزئي لجناح ماري أنطوانيت في قصر فيرساي، لكنه كان مكانا يعكس برودة لا تنسجم وطبع ساكنته القديمة. وكان الجناح يتألف من ثلاث غرف، واحدة للنوم وثانية للمكتبة والأخيرة للاستحمام، لكن هذه الأخيرة أزيلت في ما بعد. كما عمدت وزارة الثقافة الفرنسية، في ربيع العام الماضي، إلى شراء مكتب ماري أنطوانيت بمبلغ قدره 6.75 مليون يورو، وأعادته إلى قصر فيرساي. والمكتب المصنوع من خشب الأبنوس هو من عمل النجار الشهير جان هنري ريزنر، وقد أنجز تلك التحفة الفنية خصيصا للملكة الفرنسية في عام 1783. لكن أثاث القصر تبعثر بعد الثورة وبيع مكتبها بمبلغ 451 ليرة، وهو رقم كبير آنذاك، حسب تعبير بياتريس سول، المديرة العامة لقصر فيرساي.

لقد اشتراه تاجر تحف يدعى مسيو مارسو. وبعد سنوات أعيد بيع مكتب الملكة لجهة خارجية لحين شراء أسرة روتشيلد له وإعادته إلى فرنسا.

في عام 1955 شهد قصر فيرساي تنظيم معرض كبير عن ماري أنطوانيت. وشاهد الزوار مكتبها ضمن المعروضات. لقد أعارته للقصر مدام بنفينوتي، سليلة عائلة روتشيلد. وبعد وفاتها عام 1996 طرح المكتب للبيع بمبلغ 4 ملايين فرنك. وحاول المسؤولون عن القصر شراءه لكنهم لم يملكوا المبلغ، وذهب مكتب الملكة إلى عائلة كرايمر. وطوال سنوات لاحقة لم يتوقف المسؤولون عن التفاوض لاستعادته إلى القصر. وتدخلت الدولة لتعلن المكتب «قطعة تراثية مهمة»، الأمر الذي يحول دون نقله إلى خارج فرنسا، وساعدت وزارة الثقافة، بعد عناء دام 15 عاما، على الفوز به بمساعدة من متبرعين كبار.

كل ذلك الرغد والترف انتهى مع قيام الثورة الفرنسية التي حكمت على الملك لويس السادس عشر بالإعدام بالمقصلة، في شتاء 1793. أما ماري أنطوانيت، والدة الملك الطفل لويس السابع عشر، فقد قص الثوار شعرها الطويل وطافوا بها في شوارع باريس، خريف العام نفسه، وكان الدهماء يرمونها بالقاذورات ويسخرون منها لحين وصولها إلى ساحة الكونكورد، وسط العاصمة، موضع المقصلة التي قطعت رأسها الجميل. ولم تكن يومها قد تجاوزت الثامنة والثلاثين من العمر.