البنوك الحيوية توفر آفاقا واعدة في الطب والعلاج

تعتمد على مشاركة المتطوعين وتفيد في دراسة الأمراض الشائعة

TT

مع التوصل لاكتشاف الجينوم البشري (خريطة الجينات البشرية/ Human genome) في مطلع بداية القرن الحادي والعشرين، وفي ضوء التطورات والبحوث المتسارعة والمتزايدة في المجالات الطبية والتوجهات نحو الطب الشخصي (Personalized medicine)، أي استخدام جينات المريض والمعلومات عنه للتعامل معه شخصيا وتحديد ما يناسبه من وسائل العلاج والوقاية من الأمراض، بدأت العديد من الدول والمجتمعات المتقدمة في إنشاء بنوك حيوية بحثية «بيولوجية» (Biobanks).

ويجري في هذه البنوك جمع وتخزين الأصول والمعلومات الجينية (الوراثية) لأفراد المجتمع، والتعامل معها بسرية تامة. وتعتمد هذه البنوك على أخذ عينات من الدم أو الخلايا أو البول أو اللعاب من أعداد كبيرة من متبرعين متطوعين، تشكل أساسا دقيقا لإجراء العديد من البحوث الوراثية، على طريق تطوير أدوية وعلاجات طبية جديدة. ذلك أنه من خلال فحص وتحليل هذه العينات سيتيسر التعرف على الأمراض الشائعة بين الأفراد في المجتمع، مثل أمراض القلب والسرطان والسكري والشيخوخة وأمراض الدم الوراثية، وكذلك التنبؤ بالأمراض الأخرى التي يمكن أن تحدث في المستقبل.

وسيصار إلى التعرف على جينات الأمراض والخريطة الجينية (الوراثية) لكل مرض، ومن ثم دراستها. وبالتالي، فهم كيفية التعامل معها والعلاج والوقاية منها، وفاعلية الأدوية والعقاقير المستخدمة وتطوير أدوية وعلاجات جديدة، ومن ثم، وضع السياسات العلاجية المناسبة لكل الأمراض.

من أمثلة البنوك الحيوية الواعدة لتحسين الصحة لأجيال المستقبل «البنك الحيوي في المملكة المتحدة»، وموقعه الإلكتروني «www.ukbiobank.ac.uk»، الذي يحتوي على عينات وبيانات دقيقة وغاية في الشمولية، لنصف مليون شخص متبرع مقيم في بريطانيا، تتراوح أعمارهم بين 40 و69 سنة، تتضمن بيانات طبية وجينية ومعلومات عن نمط الحياة. وقد تبرع المشاركون من المتطوعين بعينات من الدم والبول واللعاب، للتخزين والتحليل الجيني على المدى الطويل، كما وافقوا على متابعة حالاتهم الصحية طوال السنوات الـ30 المقبلة وما بعدها. وستقدم المعلومات المجمعة أفكارا رئيسية حول مسألة لماذا يعاني بعض الأشخاص من أمراض معينة ولا يعاني منها البعض الآخر؟ ويؤمل أن الإجابة عن هذا السؤال من شأنها مساعدة العلماء على التوصل إلى فهم أفضل لأسباب طيف واسع من الأمراض الشائعة التي تهدد الحياة وكيفية الوقاية منها، بما فيها أمراض السرطان والقلب والسكري والشيخوخة والاكتئاب وهشاشة العظام والتهاب المفاصل والرئة والكلى.

مجلة «نيو ساينتيست» العلمية الأسبوعية البريطانية الشهيرة، ذكرت في عددها الصادر يوم 7 يناير (كانون الثاني) الحالي، أن «البنك الحيوي في المملكة المتحدة» يتأهب لجعل بياناته متاحة للاستخدام من قبل الباحثين الطبيين في جميع أنحاء العالم، وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أنهى البنك إجراءات السماح للباحثين بالوصول إلى البيانات، وفي شهر مارس (آذار) القادم، سيصار إلى إطلاق قاعدة بيانات أكثر شمولية وغير هادفة للربح. وفي هذا الصدد يقول أندرو تريهارني، مسؤول المعلومات في البنك الحيوي بالمملكة المتحدة، إنه «سيكون بمقدور أي شخص استخدام البيانات، ما دامت غايته تصب في إطار المصلحة العامة، ويمكن أن تجلب منافع صحية».

من جهة ثانية، تقول البروفسورة سالي ديفيس، المديرة العامة للبحوث والتنمية والمستشارة العلمية لوزارة الصحة والخدمات الصحية الوطنية البريطانية، إن «البحوث الطبية هي واحد من المبادئ التأسيسية لهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، بل هي عنصر حاسم في مجال تحسين نوعية الحياة وتقديم رعاية صحية أكثر فعالية، ومن خلال (البنك الحيوي في المملكة المتحدة) سنبني البحوث الكفيلة بتلبية احتياجات العصر الحالي، ونعمل من أجل أجيال المستقبل».

وبالفعل، بدأ تجنيد المتطوعين في «البنك الحيوي في المملكة المتحدة» خلال عام 2006 في مدينة مانشستر، وجرى دعمه من قبل هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، وتمويله من قبل مؤسسة «ويلكوم تراست» الخيرية، ومجلس البحوث الطبية، ووزارة الصحة البريطانية، والحكومتين الإقليميتين الاسكوتلندية والويلزية، ووكالة التنمية الإقليمية لشمال غربي المملكة المتحدة، ومؤسسة القلب البريطانية.

وعن نظام التخزين في مشروع «البنك الحيوي في المملكة المتحدة»، يشير الموقع الإلكتروني للبنك إلى أنه بنيت ثلاجة (أو حجرة تجميد) عملاقة (giant freezer) لتخزين الملايين من عينات الدم والبول من المشاركين في المشروع، لضمان تخزين العينات بأمان وكفاءة لسنوات عديدة. ويصل اتساع الثلاجة إلى 7 أمتار، وارتفاعها إلى 6 أمتار، ويصل وزنها كاملا إلى 20 طنا.

أما عن تقنيات التخزين الفائقة بالبنك، التي تكلفت 4.5 مليون جنيه إسترليني، فتبقي على 10 ملايين عينة من 500 ألف شخص من المشاركين، منفصلة عند درجة (80 تحت الصفر مئوية) لعقود عديدة قادمة، كما أن نظام التخزين قادر على العمل ليلا ونهارا. والأهم من هذا وذاك أنه يمكن استرداد - بسرعة ودقة - نحو 4000 عينة في 24 ساعة. وعبر نظام التخزين، يصار يوميا إلى شحن نحو 100 ألف لتر من الهواء الجاف و5000 لتر من النيتروجين السائل. وضمن طاقة نظام التخزين الدقيق، استيعاب 8.500 عينة في الساعة. وهذه العينات من الدم والبول واللعاب تكون مرتبطة بالمعلومات الصحية التي سبق جمعها أثناء التقييم، ووفق مجموعة من الشروط الصحية، مما يجعل هذه المصادر في غاية الأهمية للبحث العلمي. وهنا يوضح الدكتور تيم بيكمان، المدير التنفيذي لمشروع «البنك الحيوي في المملكة المتحدة»، أنه «فضلا عن الحجم الكبير لهذا المشروع، فإن من بين إنجازاته الحقيقية المهمة جدا أنه يسمح بتخزين العينات بدقة واسترجاعها بسرعة أيضا».

والجدير بالذكر أن دولة قطر كانت قد أعلنت في يونيو (حزيران) من العام الماضي 2011، عن إطلاقها أول بنك حيوي لإجراء البحوث الوراثية، يعد الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط، ، وذلك بمبادرة مشتركة بين كل من مؤسسة حمد الطبية ومؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع وكلية إمبريال كوليدج - لندن، ويعتمد هذا البنك على أخذ عينات من متبرعين متطوعين قطريين ومن المقيمين العرب، لدراستها وتحليلها، بحيث تكون أساسا للأبحاث التي تجرى حول الأمراض الشائعة بين الأفراد في قطر والمنطقة.

على صعيد آخر، بين المسائل المهمة المرتبطة بمشاريع البنوك الحيوية، قضايا الأخلاقيات (Ethics)، فثمة مخاوف دائما من إساءة استخدام بيانات الأفراد المشاركين في البحوث العلمية والعينات والمعلومات الخاصة بهم، ولذا من الأهمية بمكان مبدأ سرية المعلومات الجينية والأفراد الذين يمكنهم الوصول لهذه المعلومات، وموضوع حماية حقوق المشاركين المتطوعين، والخطوات المهمة في مجال حفظ خصوصيات الأفراد المتطوعين وبياناتهم والمعلومات عنهم وحسن توظيفها، وبالتالي، الحرص الشديد على القواعد والمعايير المنظمة لإجراء مثل هذه البحوث، والتي تعد كلها من الأطر المهمة والإلزامية، علميا وأخلاقيا، لتنظيم البحوث العلمية. وبناء عليه، أدرك ممولو مشروع «البنك الحيوي في المملكة المتحدة» أن تحليل البيانات الصحية والمواد البيولوجية، مثله مثل العديد من المشاريع، قد يثير بمرور الوقت عددا من المخاوف، ولذا طوروا إطارا للحكم والأخلاقيات (Ethics and Governance Framework) لوضع معايير خاصة بهذا المشروع تقر عبر عملية التشاور مع الجمهور، وحقا شكّل هذا «الإطار» العملي في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2004، للتأكد من وجود ضمانات علمية وأخلاقية للبحوث المعتمدة.