ديدان قز معدلة وراثيا لإنتاج ألياف حرير عنكبوتية ذات تطبيقات كثيرة

تمتاز بقوتها ومتانتها العالية وقدرتها على التمدد

يمكن لدودة القز المعدلة وراثيا أن تنتج ما يتراوح ما بين 600 و1200 متر
TT

حرير العنكبوت من المواد الطبيعية المرنة بالغة القوة والصلابة والمتانة، فهي أشد متانة من الفولاذ، ولديها القدرة على التمدد عدة مرات عن طولها الأصلي، كما أنها قابلة للتكيف، حيث تستخدمها العناكب بشكل رائع لاعتراض واصطياد فرائسها.

وتعد ألياف الحرير العنكبوتية من أرقى الألياف البيولوجية الطبيعية التي تحظى حاليا بالكثير من الدراسات والأبحاث العلمية العالمية، لتطبيقاتها الواعدة في الكثير من المجالات العسكرية والصناعية والطبية وبخاصة في الهندسة الطبية الحيوية، مثل إنتاج خيوط قوية للغاية في العمليات الجراحية الدقيقة كالجراحة التجميلية والعصبية وجراحات العيون واللاصقات الطبية للجروح والحروق وكذلك في صناعة المنسوجات والدروع والسترات الواقية من الرصاص. ولكن المشكلة التي تواجه العلماء في إنتاج حرير العنكبوت، هي صعوبة إنتاجه طبيعيا بكميات كبيرة، فمثلا، صناعة قطعة حرير طبيعية من حرير العنكبوت، مقاسها 11 في 4 أقدام، تستغرق 4 سنوات وتتطلب مليون عنكبوت كبير، وبينما يمكن تربية ديدان القز بالآلاف وإنتاجها تجاريا بكميات كبيرة، حيث يمكن إنتاج من 600 إلى 1200 متر من ألياف الحرير، لكنها ليست بقوة ومتانة حرير العنكبوت. وتجدر الإشارة إلى أنه من الصعوبة تربية العناكب لإنتاج حريرها الطبيعي، فهي تنتج فقط 130 مترا من الحرير، نظرا لطبيعتها، فهي كائنات شرسة ومفترسة. فأنثى العنكبوت تأكل الذكر بعد التزاوج أو تأكل صغارها أو تأكل بعضها البعض. فبيت العنكبوت بالمفهوم الأسري من أوهن البيوت، فهو بيت مفكك، وضعيف الترابط بين أعضائه ويخلو من المودة والرحمة. فالعنكبوت يعيش بمفرده مستقلا عن بقية أفراد مجموعته، وللتغلب على ذلك لجأ العلماء إلى تقنيات أخرى للحصول صناعيا على كميات كبيرة من خيوط حرير العنكبوت، من منها تقنية الهندسة الوراثية (هندسة الجينات).

ومؤخرا، خلال شهر يناير (كانون الثاني) الحالي، أعلن فريق بحثي أميركي - صيني، من جامعة وايومنغ بولاية وايومنغ الأميركية، وبالتعاون مع زملائهم من جامعة نوتردام بولاية إنديانا الأميركية وجامعة تشجيانغ الصينية، تمكنهم باستخدام الهندسة الوراثية من تطوير ديدان قز مهندسة وراثيا، لإنتاج ألياف صناعية من حرير العنكبوت، فقد تمكنوا من هندسة جينات حرير العنكبوت، وإدخالها (حقنها) في غدد دودة القز التي تنتج الحرير، بحيث تعكس التسلسل الجيني في العنكبوت. وقد تبين من الدراسة أن دودة القز المعدلة وراثيا، قادرة على إنتاج ألياف حرير أقوى بكثير مما كان متوقعا، وهذا الإنجاز العلمي، يفتح الباب أمام ما يمكن أن يكون الطريقة الأكثر فعالية والمجدية اقتصاديا لإنتاج ألياف حرير مهجنة (hybrid silk) ذات قوة ومتانة عالية مثل حرير العنكبوت، ويمكن استخدامها في الكثير من المجالات، وقد نشرت نتائج الدراسة في عدد 3 يناير من مجلة «وقائع الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم»، وهي واحدة من قمة المجلات العلمية العالمية.

يقول دونالد غارفيس، أستاذ البيولوجيا الجزيئية بجامعة وايومنغ الأميركية وقائد الفريق البحثي، إن «نتائج الدراسة تثبت أن دودة القز يمكن هندستها جينيا لصناعة ألياف حرير مركبة، تحتوي على تتابعات (سلاسل) متكاملة ثابتة من بروتينات حرير العنكبوت، التي تحسن بشكل كبير من الخصائص الميكانيكية العامة لألياف الحرير الأصلية لدودة القز». ويضيف أن «هذه النتائج تقربنا من الوصول لألياف الحرير التي تحمل إمكانات كبيرة للاستخدام كمواد حيوية، في ضمادات الجروح والحروق والأربطة والأوتار الصناعية وسقالات الأنسجة والكبسولات الدقيقة وغيرها من التطبيقات».

وقد حدد الباحثون التسلسل الجيني الذي يسمح للعناكب بنسج شبكتها الفريدة التي تمتاز بالقوة والمرونة. ونظرا لأن العناكب مفترسة تأكل بعضها، كما لا تعيش على شكل مجموعات، الأمر الذي يعوق تربيتها ويحول دون استخدامها كوسيلة ناجعة لتصنيع حرير العنكبوت، لهذا لجأ الباحثون إلى الهندسة الوراثية لكائنات أخرى، بدءا من البكتيريا إلى الماعز، لإنتاج تسلسل بروتينات العناكب. ولكن نسج هذه البروتينات إلى ألياف من الحرير مفيدة اقتصاديا، قد أثبت أنه بطيء ومكلف تكنولوجيا وذو عائدات منخفضة نسبيا، حيث لا يمكن إنتاجها بكميات كافية للاستخدام في أغراض كثيرة. لهذا فإن لجوء الباحثين إلى دودة القز المعدلة وراثيا، التي استخدمت لقرون كثيرة لإنتاج الحرير لصناعة المنسوجات وبعض الاستخدامات الأخرى، سوف يلغي الحاجة لهذه التكنولوجيات المكلفة في عملية نسج ألياف الحرير.

يقول غارفيس، إن «ألياف الحرير المركبة، بنسبة 2 إلى 5 في المائة من بروتينات حرير العنكبوت، التي تم نسجها في دودة القز، كانت أقوى 4 مرات من ألياف الحرير الأصلية لدودة القز وقوية تقريبا كما هي في حرير العنكبوت». ويقول غارفيس إن «الخطوة التالية المقبلة سوف تتمثل في هندسة دودة القز لإنتاج ألياف حرير، تحتوي فقط وتتكون بالكامل من بروتينات حرير العنكبوت». ويضيف أنه «لقد أثبتنا ببساطة أن بروتينات حرير العنكبوت يمكن استيعابها في ألياف دودة القز، فمن الواضح أن دودة القز هي منصة مؤهلة بشكل فريد لتطبيق هذه التكنولوجيا الحيوية بصفة خاصة».

يقول كل من البروفسور ديفيد كابلان، والبروفسور فيورنزو أومينيتو، بقسم الهندسة الطبية الحيوية بكلية الهندسة بجامعة تافتس بولاية ماساتشوستس الأميركية، في بحث لهما بمجلة «العلوم» الأميركية، عدد 30 يوليو (تموز) من عام 2010، إن العناكب وديدان القز تنتجان أليافا بروتينية حريرية طبيعية تجسد القوة والجمال، وتشكل شبكات وتصميمات رائعة من مفاخر الهندسة الحيوية في الطبيعة. وهذه الألياف الفريدة عالية القوة والمرونة والقابلة للتمدد، تعد من السمات غير المتوفرة حتى الآن في المواد الصناعية.

ويذكر أن باحثين من كلية الطب بجامعة هانوفر الألمانية، كانوا قد أعلنوا في دراسة نشرت على الموقع الإلكتروني لمجلة «بلوس ون» (PLoS One) في 26 يوليو من العام الماضي 2011، أن ألياف حرير العنكبوت الرقيقة القوية قد تكون مصدرا مهما للحصول على جلد صناعي للبشر، فقد زرع الباحثون خلايا جلدية بشرية في أنسجة تشبه طبقة الجلد الخارجية، وذلك داخل شبكة من خيوط العنكبوت، ووجدوا أنه بإمكان الخلايا البشرية أن تنمو داخل هذه الخيوط في حال تزويدها بالتغذية والمغذيات السليمة والظروف الجوية المناسبة كالتهوية والتدفئة. ونقل موقع «لايف ساينس» الإلكتروني العلمي في 8 أغسطس (آب) الماضي، عن الباحثة هانا ويندت بكلية الطب بجامعة هانوفر الألمانية والمشاركة في هذه الدراسة، قولها، إن «القوة والمتانة العالية والقدرة الكبيرة على التمدد التي تتميز بها خيوط حرير العنكبوت، تشكلان عوامل مهمة لنقل ومعاملة وبسهولة الأعضاء المزروعة». وأضافت أن «خيوط الحرير هذه لا تحفز الجسم على رفض الأعضاء المزروعة».