معرض جديد للفنان الجزائري الذي عقد قران الرسم على الكلمة

مراكب بن عنتر تعبر في أزقة مونبارناس

لوحة دروب («الشرق الأوسط»)
TT

يشعر الذين يتلقون دعوات لحضور معرض «غاليري كلود ليمان» أنهم مع موعد للقاء الفن والأصدقاء الكثير المبعثرين في أرجاء باريس وضواحيها. إن المساحة ضيقة، لكن ابتسامة صاحب الصالة في رحابة بيت واسع الأرجاء. لقد تمكن هذا اللبناني العاشق للأعمال الفنية والجامع لها من أن يفوز بثقة عشرات الرسامين العرب، مشرقا ومغربا، وأن يكون وكيلهم الفني في عاصمة كانت وما زالت، بهذا القدر أو ذاك، بوصلة للاتجاهات التشكيلية وحركات التجديد في العالم.

الموعد، هذه المرة، مع الفنان الجزائري الكبير عبد الله بن عنتر، في معرض استعادي يقام في قلب حي مونبارناس ذي الحمولة التاريخية والفنية العميقة. ولعل من فضائل الفنون التشكيلية أنها لا تحتاج إلى مترجم ينقلها إلى لغة هذه البلاد. إن الذائقة هي المرجع في تبني هذا الفنان أو ذاك، ولوحات بن عنتر تتوغل في الطبيعة وتنبسط للتأمل وتتعامل مع الألوان بلغة تفهمها العيون وتتحاور مع الإرث المعرفي لكل زائر، وتحيل إلى الثقافة التي جاءت منها؛ فالفنان نفسه، المولود في مدينة مستغانم قبل 80 عاما، هو سليل بيئة عائلية متجذرة في الدين والأدب ومخطوطات الأقدمين وأشعار الصوفيين والإصغاء إلى تراث الموسيقى الأندلسية. ولما جاء بن عنتر إلى باريس وهو شاب في أوائل العشرينات من العمر، تفتحت موهبته على ثقافة أخرى ذات أبعاد عالمية؛ فقد كانت العاصمة الفرنسية تنشط بوتيرة ثقافية وعمرانية متسارعة لتطرد عنها آثار الحرب العالمية الثانية وما رافقها من احتلال مشين. وكان على الفنان الجزائري الشاب ألا يضيع في الصخب المحتدم في العشرات من المعارض والمتاحف والإصدارات الفنية، بل أن يختط لنفسه طريقه الخاص، متأثرا بأرقى ما اصطفته روحه من أعمال الرسامين العالميين وما مالت إليه ذائقته من ألوان وأساليب.

جاءت لوحات عبد الله بن عنتر مساحات من الضوء والموج والسماوات الصافية أو المتلبدة. إنه رسام الأجواء المتوسطية المسكون بهذا الأفق المائي المفتوح بين الشمال والجنوب؛ حيث المراكب تصارع الموج، وركابها يغامرون حتى بحياتهم، والنورس يرسم بجناحه خطوطا عابرة، والأنجم تبزغ وتأفل على امتداد العصور، وأضواء الفنارات ترشد النفوس الحائرة، وروائح البحر وبقع طحالبه تتسلل إلى اللوحة وتقيم فيها. لقد عبر المتوسط، نحو الشمال، ليقوي عوده في باريس ويعمل في معاهدها، ثم ليستقر في بقعة على المحيط الأطلسي، غرب فرنسا، ويواصل غمس ريشته بالزرقة المتحولة إلى ألوان وأشكال هلامية مجردة حينا، ومشخصة في أحايين أخرى. كأن بن عنتر يكتب، لوحة بعد لوحة، وفي معزل عن ضجيج التجمعات الفنية وثرثرة العواصم، قصيدته البصرية الطيفية الصافية والشفافة والمحتدمة، الخالية من الأحرف والمتفلتة من الأوزان إلا بحر الواسع المتلاطم بين شراعين.

لم يتعلم الفنان الرسم في فرنسا، بل يقول إنه انجذب إليه وهو فتى أقعده المرض في الفراش فراح يمضي وقته في رسم الأزهار وغيرها من عطايا الطبيعة. ولما شُفي بدأ يتردد على ورش النحت والرسم في معهد الفنون الجميلة في وهران. وهناك التقى الرسام الرائد عبد القادر غرماز (1919 - 1996) وأصابته الجرثومة الجميلة للفن. وعندما قرر، بعد سنوات، أن يشد الرحال إلى باريس فإنه لم يأتِ وحيدا، بل برفقة صديقه محمد خدة (1930 - 1991) الذي صار يعتبر، فيما بعد، أحد مؤسسي الرسم الجزائري الحديث ومن ممثلي الرسم بالإشارة. ومنذ معرضه الشخصي الأول، عام 1957، لم يتوقف بن عنتر عن عرض أعماله في العاصمة الفرنسية ومدن أوروبية غيرها. ولأن لوحاته تبدو مفرطة في شاعريتها، لم يكن غريبا أن ترافق رسوم بن عنتر دواوين زملائه من الشعراء، وأبرزهم: جان سيناك في مجموعته «صباحية شعبي».

مع ستينات القرن الماضي انتقل الرسام إلى فن الحفر (الغرافيك) وأسس سلسلة «شارف»، نسبة إلى اسم شقيقه الذي استشهد في حرب التحرير الجزائرية، وراح يصدر الكتب التي تجمع بين رسومه ونصوص يختارها بعناية من أشعار المتصوفة العرب أو كتابات الجزائريين المعاصرين أو قصائد زوجته الشاعرة مونيك بوشيه. وكانت خطوطه تختلط وتتماهى في بعض الأعمال مع صورة أخيه أو صور مبهمة لوالدته حلوم. وفي مرحلة لاحقة، تضمنت الكتب المرسومة نصوصا لشعراء من جنسيات كثيرة حتى زاد عدد إصدارات السلسلة على 1500 كتاب خلال 40 عاما. وكان الفنان يصمم ويرسم وينفذ كل كتاب بنفسه ثم يطبع منه نسخا محدودة أو نسخة فريدة تتضمن، بين دفتيها، التجارب الأولية لمحفوراته أو رسوماته المائية. ونظرا لأهمية التجربة فقد خصص لها متحف الفن الحديث في باريس معرضا، عام 1970، واحتفى بها معهد العالم العربي، عام 2003.

عمل عبد الله بن عنتر، الرسام ذو اللوحات الكثيرة والصور الشخصية القليلة، مدرسا في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس، ثم في مدرسة فنون الحفر والتزيين. وهو عضو في تجمعات فنية كثيرة، لكنه يشبه عامل طباعة منقطعا لحرفته اليدوية، يرسم بدأب ويعرض لوحاته، سنويا، في صالة صديقه كلود ليمان الذي عرف كيف يوصل أعماله إلى أسواق الفن العالمية. وها هو معرضه الجديد يأتي ليلقي سحابة من أطياف ملونة على أجواء مونبارناس التي تعرف كيف تحتضن الموهوبين الشباب وتحتفي، لا سيما، بالشيوخ المكرسين.

عنوان صالة العرض: 16 rue Littré 75006 Paris.