هلع ينتاب سكان المباني القديمة في بيروت

بعد انهيار مبنى في العاصمة اللبنانية ووفاة 27 شخصا

المبنى المنهار في الأشرفية
TT

يعيش اللبنانيون حالة من الهلع، إثر انهيار مبنى مكون من سبع طبقات، على من فيه بمنطقة الأشرفية، في بيروت، يوم الأحد الماضي، ووفاة 27 شخصا. وزادت تصريحات المسؤولين من خوف المواطنين بدل تهدئة روعهم، إذ صرح رئيس بلدية بيروت المهندس بلال حمد بعد يومين على الكارثة قائلا «إن المباني القديمة قنابل موقوتة»، ولذلك «يجب أن يكون هناك ثورة عنوانها العريض السلامة العامة».

وكانت الجثث لا تزال تنتشل من تحت ركام المبنى المنهار، والضحايا لم يدفنوا بعد، عندما علت أصوات تنبه إلى أن جسر جل الديب الواقع على مدخل بيروت الشمالي، مهدد بالسقوط في أي لحظة لأن أعمدة منه أخذت بالتداعي، مما استدعى اتخاذ قرار بإقفاله وتفكيكه.

وتتالت الشكوى من المواطنين للتبليغ عن شرفة وقعت هنا أو حائط انهار هناك، واضطرت بلدية بيروت، أمام رعب المواطنين القاطنين لعمارات متصدعة ومهددة بالسقوط، إلى إخلاء عدد من المباني، والبحث عن مساكن بديلة لعشرات العائلات التي أصبحت بلا مأوى.

وكأنما حادثة المبنى في الأشرفية الذي انهار على رؤوس 50 شخصا، فتحت الباب على مصراعيه على مشكلة مزمنة ومهملة في لبنان، هي قضية المباني القديمة. وهي قضية ما كان لها أن تستنفر أحدا على خطورتها، لولا سقوط ضحايا وهم يأوون منازلهم.

وقد يكون الأمر أسوأ مما يتصوره البعض.. فالمنازل القديمة ليست وحدها الخطرة في لبنان، وإن بدا أن لها الأولوية اليوم، بسبب انهيار مبنى عمره 70 سنة. فأكثر من مرة تعالت أصوات في سنوات سابقة تحذر من أن الأبنية الجديدة، لا يلتزم أصحابها في الكثير من الأحيان بشروط السلامة العامة، دون أن يرى المواطن أي إجراءات ملموسة لوقف المتجاوزين أو معاقبة المخلين.

ومما يؤكد أن المباني الجديدة لا تستوفي بالضرورة شروط سلامة قاطنيها، أن نقيب المهندسين السابق بلال العلايلي كان قد حذر من المباني التي أنشئت قبل عام 2005. وقال العلايلي مطلع عام 2011 «إن مستثمرين كثرا قبل عام 2005 لم يتقيدوا بشروط السلامة من الناحية الإنشائية بسبب غلبة المنحى التجاري مع غياب المواصفات في لبنان، أما ما بعد ذلك العام فإن البناء الجديد التزم بهذه الشروط».

لكن هذا لم يعد أكيدا أيضا، إذ إن العلايلي نفسه كان قد قال، في شهر مارس (آذار) من عام 2010 بشكل صريح خلال مؤتمر صحافي، إن «إقفال المقالع والمرامل والكسارات عن العمل أمر يتسبب بمشاكل جسيمة». وقيل يومها إن النقيب يدق ناقوس الخطر لأنه شرح بأنه «نظرا لفقدان مواد الرمل من الأسواق، لجأ بعض أصحاب مجابل الباطون إلى استعمال مواد رملية ناعمة تشوبها مواد عضوية وترابية مستخرجة من مجاري الأنهار، خصوصا نهر بيروت، الأمر الذي يعرض سلامة المنشآت إلى خطر الانهيار والتشقق ويؤثر في السلامة العامة، بعد مضي عشر سنوات على البناء، مما سيكلف الاقتصاد الوطني مبالغ هائلة وجسيمة».

هذا النوع من التصريحات والأخبار كان يسمعه اللبنانيون خلال السنوات الماضية دون أن يروا أي إجراء يتخذ على الأرض لمعرفة أي من المباني الجديدة خالف القانون، وأيها صالح للسكن.

الأمر لا يتوقف هنا، بل إن تعدد الهيئات وتشابك صلاحياتها، يجعل المواطن غير عارف على من تقع مسؤولية الحفاظ على سلامة السقف الذي يؤويه.. فهناك بلدية بيروت، وهناك نقابة المهندسين وكذلك إدارة التنظيم المدني في وزارة الأشغال، يضاف إلى هذه جميعا مجلس الإنماء والإعمار المسؤول عن بعض المنشآت مثل جسر جل الديب الذي كان متروكا لينهار مهددا حياة آلاف المارة الذين يجتازون ذلك الطريق يوميا.

المهندس إلياس هدايا، من مصلحة الهندسة في بلدية بيروت، قال لـ«الشرق الأوسط» إن أي مشروع بناء في العاصمة يتم بعد تقديم خرائطه التنفيذية للبلدية للحصول على رخصة، أما التنفيذ على الأرض فهو ليس من مسؤوليتها، وإنما مسؤولية المهندس المسؤول عن المشروع. وعند سؤال «الشرق الأوسط» عما إذا كانت البلدية تشرف على البناء على الأرض، أو تزور المواقع للتحقق من سلامة العمل، يجيب هدايا «نحن لا نتدخل ونكشف على أي موقع بناء إلا إذا وصلت إلينا شكوى من طرف ما. وفي حال لم يحدث مثل هذا الأمر فإن صاحب الرخصة هو الذي يتحمل مسؤولية التنفيذ والتقيد بشروط السلامة العامة. تماما مثلما تعطى رخصة قيادة السيارة للمواطن، فإن ارتكب حادثا فالمسؤولية تقع على عاتقه الشخصي».

إذن من الصعب معرفة مدى تقيد أصحاب المشاريع العمرانية المنشأة حديثا بالشروط التي تحمي حياة الناس، لأن القانون المخصص لهذا الأمر لم تصدر مراسيمه إلى هذه اللحظة، ويبدو وكأن الكشف على المباني أثناء عمارتها ليس من مسؤولية أحد، في الوقت الراهن، إذ إن مهمة نقابة المهندسين استشارية فقط. وبهذا فإن المستثمرين باتوا متروكين لضميرهم، وهذا بالتأكيد يفسح مجالات لا حدود لها لمخالفات قد تكون خطرة على حياة القاطنين في المباني.

إذا كان هذا حال المباني الجديدة، فما هي أوضاع العمارات القديمة، التي بدأت تتساقط وتتداعى على رؤوس أصحابها؟.. المهندس إلياس هدايا يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «بلدية بيروت ليس لديها أي إحصاء لعدد الأبنية القديمة المهددة. فالبلدية لا تجري فحوصات دورية للعمارات، ولا تدخل الشقق لتفحصها، وعلى المستأجر أو المالك أن يبلغ البلدية عن أي تشققات أو تصدعات تظهر في المبنى لتتدخل، وما عدا ذلك لا يوجد جهاز في البلدية للكشف الدوري. لكن بعض المهندسين يقدرون عدد المباني المهددة في العاصمة اليوم بالمئات، دون أن تكون لدى أي من الجهات تقديرات رسمية».

لجنة الدفاع عن حقوق المالكين اعتبرت، على لسان رئيسها جورج رباحية، أن قانون الإيجارات الذي لا ينصف المالك، ويترك المستأجرين يستأثرون بالشقق بمبالغ زهيدة، يجعل المالكين غير قادرين على إصلاح أملاكهم أو التدخل لصيانتها. وبالتالي فإن ما سيتم تصنيفه من مبان خطرة في الأيام والشهور المقبلة، لن يتمكن المالكون من إصلاحه أو ترميمه، بحسب ما يقولون، رغم أن رئيس البلدية يحملهم المسؤولية عن ذلك، بموجب القانون.

وبذلك بدا، بعد انهيار مبنى الأشرفية وسقوط الضحايا، وكأن لا مسؤولية تقع على عاتق أحد، أو كأنما الضحايا هم المسؤولون عن موتهم، لأنهم لم يبلغوا عن سوء حال المبنى الذي يقطنون فيه.

وأكدت لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين في لبنان في بيان لها أنها ترفض «رفضا قاطعا تجرؤ المالكين على تحميل مسؤولية هذه المأساة للمستأجرين الفقراء وكأنهم يقولون لهم: إما نرميكم في الشارع وإما تموتون تحت الأنقاض!».

لكن حرب البيانات والتصريحات التي يحاول من خلالها كل فريق أن يتنصل من مسؤولية دماء الضحايا، لا تسعف في حل قضية قديم المباني وجديدها.

الخطوة الجدية التي اتخذت، قضت بتعاقد بلدية بيروت مع شركات خاصة وظيفتها الكشف على المباني القديمة. وشرح رئيس البلدية بلال حمد أن «الشركات ستقوم بالكشف على المباني وستقدم تقريرا عن وضعها، وستوجه إنذارا إلى البناء المهدد إما بالترميم العاجل تحت طائلة المسؤولية وإما بالإخلاء الفوري».

وأعلن حمد أنه ليس من واجب بلدية بيروت أن تؤمن مسكنا بديلا للناس الذين سيتركون منازلهم، وعلى جميع مسؤولي الدولة أن يتعاونوا في هذه المهمة، فمهمة البلدية هي فقط إجراء الكشوفات على الأبنية.

مأساة فوضى البناء في لبنان لا تزال في أولها، وإذا كان ثمة منازل تنهار من تلقاء نفسها، فما الذي سيكون عليه الحال لو ضرب زلزال البلد؟! وهو أمر يتوقعه أهالي العاصمة التي طمرت سبع مرات، بفعل الزلازل التي كانت قد ضربتها، وها هي تعيش حياتها الثامنة.