أسطح بتقنية نانوية.. ترمم نفسها بنفسها

تفيد في مختلف المرافق والمجالات من المعالم التاريخية إلى أحواض الغسيل

المادة تستخدم في ترميم وصيانة قبر أتاتورك (المصدر: نانوبول)
TT

توفر الطبيعة البشرية مثالا يحتذى بالنسبة للعلماء الباحثين عن مواد جديدة توضع في خدمة البشر في المستقبل. وهكذا أنتجوا مواد لاصقة قوية تشبه في أوصافها المواد اللاصقة التي تستخدمها الأصداف البحرية للالتصاق على الصخور، وصنعوا «طوربيدات» ذات أغلفة تشبه جلد الدلفين لكي تتغلب على مقاومة الماء، وقلدوا نسيج العنكبوت بهدف صناعة أنسجة متينة لا تبتل بالماء.

معهد فراونهوفر الألماني المعروف يعكف منذ سنوات على ابتكار أسطح اصطناعية تشبه جلد الإنسان، وتتمتع بقابلية ترميم نفسها بنفسها عند تعرّضها للخدش أو الصدع. هذا يعني أيضا أن الأسطح المذكورة ستكسب المعادن، عند كسوها بها، نوعا من المناعة أيضا ضد التأكسد، وتطيل عمر المواد والأجهزة بشكل ظاهر.

البحث جار الآن في مختبرات المعهد المذكور بمدينة شتوتغارت، في جنوب غربي ألمانيا، عن مواد سائلة يجري شحنها بكريات «نانوية» لتشكل قوام السطح المطلوب. وعندما يتعرّض السطح للضرر، كالخدش مثلا، تنفجر الكريات «النانوية» القريبة، وتفرز مادة سائلة من داخلها، تتولى من ثم ترميم الجزء المتضرر وإعادته إلى حالته الأولى. وتجري هذه العملية كهربائيا وكيماويا لأن السائل والكريات يشكلان وسطا إلكتروليتيا يتفاعل بعضه مع بعض.

وفي هذا الصدد، يقول علماء المعهد إن المشكلة الأساسية في صناعة مثل هذه الأسطح تتعلق بحجم الكريات الكبير نسبيا (10 - 15 ميكرومترا) مقارنة بسماكة السطح (20 ميكرومترا) لكي يحقق النتائج المرجوة. ولقد نجح معهد فراونهوفر الآن، بالتعاون مع المعهد الشقيق في مدينة دفيسبورغ بشمال غربي البلاد، وبدعم من شركة «فولكس فاغن» الشهيرة لصناعة السيارات، في التغلب على هذه المشكلة حاليا.

إذ توصل الباحثون الآن إلى إنتاج كريات «نانوية» أصغر بكثير من سابقتها، بحيث لا يزيد قطر الواحدة منها على 200 نانومتر. وذكر الباحث مارتن ميتزنر، من معهد فراونهوفر، أن حساسية السطح وقدرته على ترميم نفسه تعتمدان إلى حد كبير على حجم الكريات.

من جهة ثانية، نجح الباحثون حتى الآن في تغطية قطع صغيرة من النحاس والنيكل والخارصين بطبقات إلكتروليتية من هذا النوع، وتمكنت هذه القطع من ترميم نفسها بنفسها ضد الخدش. إلا أن إنتاج المادة بكميات كبيرة، تكفي مثلا لتغطية سيارة، سيحتاج إلى سنتين أو ثلاث.

على الصعيد نفسه نجح فرع المعهد في مدينة زاربركن، بجنوب غربي ألمانيا، في إنتاج سطح «نانوي» يرفض التصاق المواد عليه، ضمنها القاذورات والبكتيريا والفطريات، وبالتالي، يبقي المواد السيراميكية والتواليتات والمراحيض نظيفة. واعتبر المعهد هذه الخطوة أهم ابتكار في عالم تجهيزات الحمام منذ اختراع الفرنسيين مادة «التيفلون» في التواليتات وأحواض الغسيل عام 1954.

وحسب مصادر المعهد، فإن المادة ثابتة تجاه الحرارة، غير ضارة بالبيئة، ويمكن استخدامها في المواد بلا حدود (عدا أدوات الطعام والأنسجة). وتمنح المادة للأسطح الخشبية والسيراميكية والمعدنية قدرة طاردة للأوساخ التي قد تتجمّع عليها. بل إنها تصلح لأسطح الطائرات بفضل ثباتها تجاه البرودة وقوة الريح، كما يمكن طلاء سطح رقيق جدا منها على أسطح أوراق النباتات بهدف إبعاد ذرات الغبار عنها.

وبالتعاون مع شركة «نانوبول»، المتخصصة بالتقنية «النانوية»، تمكنت مجموعة من العلماء من تحويل رمل الكوارتز (المرو) إلى مادة إلكتروليتية تحتوي على كريات السليكون «النانوية»، ومن ثم أضافوا لها الكحول وصمغ الراتنج. ونتج عن ذلك مزيج، هو في واقع الحال من الناحية الأساسية، ليس أكثر من مزيج من ثاني أكسيد السيليسيوم، الذي يشكل قلب المنتوج الزجاجي، لكن الكريات «النانوية» والصمغ أكسبته هذه القدرة الطاردة للقاذورات.

الأدهى من ذلك هو أن هذه المادة حينما تتماسك على سطح ما فإن سماكتها حينئذ لا يزيد على 100 نانومتر، أي 500 مرة أصغر من سماكة الشعرة البشرية. وتتولى قوى كهربائية داخلها طرد المواد الغريبة التي تقترب من السطح، وتشكل وسطا متينا وثابتا ضد الأضرار الخارجية.

وحسب مصادر المعهد الألماني فإن شركة «نانوبول» تولت في تركيا تغطية ضريح مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك بهذه المادة الزجاجية (التي تحمل الاسم التجاري «بكترلون») بالكامل. وتفكر الحكومة التركية حاليا، في أعقاب نجاح هذه التجربة، في طلاء معالم تاريخية أخرى بهذا الزجاج الجديد. وذكر باحث الآثار التركي المعروف خليل ايسكجي، من جامعة إزمير، أن السلطات التركية تفكر في تغطية 130 من معالمها المعمارية والتاريخية بهذا السطح الطارد للأوساخ، الذي يحافظ على المواد من تأثير الفطريات والعث.

وفي مجال مختلف، تحدثت «نانوبول» عن شركة أميركية تنوي استخدام الأسطح الطاردة في صناعة زجاج الشبابيك والمناضد وقطع الأثاث الأخرى. وتود الشركة المذكورة على وجه الخصوص طلاء أجزاء المطابخ المعدنية بها لأغراض صحية، أي طرد الجراثيم عن أسطح الطبخ ومواقع تحضير الأغذية.

أخيرا، بالتعاون مع وزارة الصحة في ولاية زارلاند (السار) الألمانية وعاصمتها زاربركن، أجرت شركة «نانوبول» تجربة حول فعالية مادة «بكترلون» في مقارعة الجراثيم. وعملت بين سبتمبر (أيلول) ومطلع ديسمبر (كانون الأول) 2011 على طلاء بعض المطابخ وغرف المعالجة في دار «فالباخ» للعجزة بهذه المادة الشفافة. وجرى فحص نسبة التلوث في هذه المناطق يوميا للتأكد من تأثير المادة، وكانت النتيجة انخفاض وجود الجراثيم في هذه الغرف بنسبة 50 في المائة، وانخفضت معها حالات الالتهابات والعدوى بين سكان الدار إلى النصف أيضا.