رسائل ديغول الحربية السرية تخرج إلى النور بعد 70 عاما

معرض في باريس لكنز صغير احتفظت به كاتبة طابعة وأورثته لابنها الوحيد

مسودة رسالة سرية بخط ديغول وديغول أيام قيادته لقوات فرنسا الحرة
TT

- «سيدي.. ماذا أفعل بكل هذه الرسائل التي تجمعت لديّ؟».

- «احتفظي بها.. إنها بين يدين أمينتين».

صاحبة السؤال هي ماري تيريز ديسينييه، كاتبة الطابعة في مكاتب قوات «فرنسا الحرة» في لندن خلال الحرب العالمية الثانية. وصاحب الجواب هو الجنرال شارل ديغول، قائد عمليات المقاومة لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي. أما الرسائل موضوع الحديث فهي النسخ الأصلية المكتوبة بخط الجنرال وتوقيعه لـ313 وثيقة سرية كان الجنرال قد كلف السكرتيرة بطباعتها لإرسالها إلى حلفائه وأنصاره في الدول الكبرى، بين عامي 1941 و1943.

كانت ماري تيريز تقيم في إنجلترا عندما قامت الحرب. وبدافع الشعور الوطني التحقت بمكتب قيادة قوات فرنسا الحرة، منذ صيف 1940، وأصبحت مسؤولة عن قسم الآلة الكاتبة والتحرير وعملت بشكل قريب من ديغول وسافرت معه، بعد ذلك، إلى الجزائر. وكان الجنرال قد أدرك أن الاحتلال الألماني قد وضع فرنسا خارج ميدان القتال ولا بد من تنظيم خلايا للمقاومة داخل البلاد، وذلك بمساعدة الحلفاء الإنجليز والأميركان. لقد توسعت الحرب وبلغت الشرق الأوسط وآسيا وشمال أفريقيا وجزر المحيط الأطلسي وروسيا. وكان على الجنرال الذي خسر أرضه الأصلية أن يزرع رايات قواته في رمال الصحراء الأفريقية والمناطق التابعة لفرنسا وراء البحار. ولتحقيق هذه الغاية كانت رسائله المشفرة وأوامره تتوجه إلى قادة خلايا المقاومة في الوطن، كما كانت رسائل أخرى تتوجه إلى زعماء العالم وقادة قوات الحلفاء.

ماري تيريز كانت تتلقى الرسائل المكتوبة بخط الجنرال وتطبعها على الآلة الكاتبة ثم تشفرها مع فريق العاملين معها، قبل إبراقها إلى وجهاتها. وبعد ذلك تحتفظ بالأصل، بعناية، في صندوق من الكرتون. ولما رحل ديغول إلى الجزائر أخذها معه لتقيم وتعمل في «فيللا دي غليسين» في العاصمة. وبعد انتهاء الحرب وعودة قيادة أركان «فرنسا الحرة» إلى الوطن، تخلفت السكرتيرة لبعض الوقت قبل الالتحاق بهم. ولما ذهبت لتأخذ حاجياتها الخاصة من المكاتب وجدتها خالية. لقد نقلوا كل الملفات لكنهم أهملوا الصندوق الذي احتفظت فيه بالنسخ الأصلية من مراسلات القائد. ولما التقت به، فيما بعد، سألته عما تفعله بالرسائل فطلب منها ديغول أن تبقيها عندها.

في عام 1958 وصل شارل ديغول إلى كرسي الحكم في «الإليزيه». وذهبت ماري تيريز ديسينييه لتعيد تذكير رئيس الجمهورية برسائله القديمة، فطلب منها مجددا أن تحتفظ بها. هل أراد الجنرال أن يترك هدية رمزية ثمينة لكاتبة الطابعة الوفية والأمينة؟ بعد وفاتها، عام 1996، انتقل ملف الرسائل إلى ولدها الوحيد جان كلود شالومو. وقال الوريث إنه كان قد سمع من والدته، بشكل عابر، عن الرسائل التي كانت تطبعها وتصححها للجنرال لكنه لم يكن يظن أنها احتفظت بها كل تلك السنوات. ولما عثر على الرسائل وطالعها ووجد أن بعضها موجه إلى تشرشل وستالين، أدرك أهميتها التاريخية والمادية فاتصل، في الخريف الماضي، بجيرار لريتييه، مدير المتحف الفرنسي للرسائل والمخطوطات، عارضا بيعها للمتحف، ذلك أنهم كانوا بصدد تنظيم معرض وثائقي عن الجنرال ديغول. ولم يهتم لريتييه كثيرا وتصور المكالمة مزحة من شخص ثقيل الدم ولم يتوقع أن الأمر يتعلق بكنز صغير ظل مخفيا لسبعين عاما. وبعد الإلحاح وافق على تحديد موعد للمتصل وهو يتوقع أن يرى نسخا مصورة من رسالة أو رسالتين تحتملان الشك، ذلك أن رسالة حرب واحدة بخط ديغول وإمضائه تمتلك قيمة كبيرة فكيف بأكثر من 300 رسالة؟ حين وقعت عينا لريتييه على الملف، استبد به التأثر حتى كاد يغمى عليه، حسب قوله، ولم يصدق ما يرى، لا سيما أن الرسائل كانت محفوظة بعناية وكأنها كتبت بالأمس. بكم اشترى المتحف رسائل ديغول؟ لا أحد يعرف بالضبط لكن المشتري يؤكد أن المبلغ «أكثر من مشرف».

ومن مجموع تلك الوثائق تم اختيار 200 رسالة وتقديمها للجمهور في معرض يقام، حاليا وحتى 12 مايو (أيار) المقبل في متحف الرسائل والمخطوطات في باريس. وعدا عن كونها وثائق تاريخية فرنسية فإن لرسائل شارل ديغول أهمية كبيرة للعرب، في جانبها الأفريقي. إنها تظهر، بشكل واضح، دور «جيش أفريقيا» المؤلف من مقاتلين عرب وبربر وأفارقة مسلمين في غالبيتهم، في تعزيز الجيش الفرنسي وأفضال أولئك الجنود المنسيين في كسب أعتى معارك الحرب التي انتهت بتحرير فرنسا. ويشير دليل المعرض إلى أن مصير الحرب العالمية الثانية، بل مصير الكرة الأرضية، تقرر في دول مثل الجزائر والمغرب وتشاد ولبنان وسوريا وليبيا. ويؤكد الدليل أن «فرنسا الحرة»، من دون أولئك الشجعان، ستكون «أقل حرية».

يمكن لزائر المعرض أن يقرأ رسائل كثيرة توزعت على مساحة 100 متر مربع موجهة من الجنرال إلى ضباطه وقادة عملياته العسكرية، مصدرة بكلمة «سري» بالخط الأحمر. أما الرسائل الموجهة إلى قادة معسكر الحلفاء فتعكس الشخصية القوية والحازمة للقائد الفرنسي العنيد والمكابر والمهموم بتحرير بلاده. لقد كان يصارع حلفاء من أمثال الرئيس الأميركي روزفلت، يتحسسون من كبريائه ويتجاوزنه في قرارات يسمع بها من الصحف. وبين كل تلك الرسائل، يتوقف الزوار، بشكل خاص، عند البرقية التي بعث بها ديغول إلى حليفه الزعيم السوفياتي ستالين للتهنئة بمرور 25 عاما على ثورة أكتوبر الروسية. لكن الجنرال أخطأ إذ كتب في البرقية مهنئا بـ«ذكرى تأسيس الاتحاد السوفياتي». وإلى جانب الرسائل الأصلية، احتفظت ماري تيريز بالرسائل المطبوعة التي عاد الجنرال وأجرى عليها تصحيحات بقلمه. ففي رسالته إلى ستالين كان قد كتب «أُحيي الجيش المنصور للجمهورية السوفياتية في جهده المدهش الذي يستمر بينما تتوحد فرنسا بأجمعها في المقاومة»، ثم صححها إلى «أُحيي الشعب والجيش المنصور في جهوده التي ترافق جهود فرنسا».