اكتشاف «مدينة ملكية» كوشية مهمة في موقع ضناقيل بشمال السودان

يرجع تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد.. وكشفت بالتعاون مع خبراء المتحف البريطاني

الكنوز الأثرية التي عثر عليها مجموعة من القطع الحجرية التي يقدر عمرها بنحو 300.000 سنة
TT

تعرّض السودان، الذي تعدّ أرضه مهدا لبعض أقدم الحضارات في العالم، في وقت مبكر لعمليات نهب منظم لآثاره ومقتنياته التاريخية من قبل الأوروبيين المغامرين في نهاية القرن التاسع عشر.

كذلك، في الفترة نفسها تقريبا، مع مطلع القرن العشرين، انطلقت ولو بصورة بطيئة عمليات الحفريات وأعمال التنقيب عن الآثار القديمة المدفونة تحت رمال صحارى شمال البلاد. ولقد ظهر من دراسات تاريخية وأثرية عديدة قيّمة أن أرض السودان لعبت دورا مهما في ربط سكان أواسط أفريقيا بعالم البحر الأبيض المتوسط لآلاف السنين.

ومن جهة ثانية، بيّنت الدراسات والأبحاث أيضا، أن أرض هذه البلاد الشاسعة تكتنز المخزونات الأثرية فوق الأرض وتحتها لفترات طويلة جدا، تمتد من العصر الحجري القديم حتى الفترة الإسلامية. ومن الكنوز الأثرية التي عثر عليها مجموعة من القطع الحجرية التي يقدر عمرها بنحو 300.000 سنة تعود للسكان الأوائل في فترة تاريخية غابرة سحيقة. كما أزيحت الرمال والأتربة عن «أكوام» أو مقابر ومدافن لحكام حضارة كرمة (تعود إلى نحو 1700 قبل ميلاد المسيح عليه السلام) ومعابد بناها الفراعنة (الملوك) الكوشيون - نسبة إلى بلاد كوش - بالإضافة إلى عدد من الكنائس والمعابد التي ترجع إلى القرون الوسطى المسيحية، وقباب ومقابر لأفواج المسلمين أو الحجاج المتجهين للأراضي المقدسة.

هذا، وجرت العادة، في شتاء كل عام أن تصل إلى السودان مجموعات من علماء الآثار والباحثين والمنقبّين الأثريين من الولايات المتحدة الأميركية ومختلف دول أوروبا والولايات المتحدة، إلى جانب باحثين وأكاديميين من جامعات ودول آسيوية، للقاء نظرائهم من الأثريين والخبراء في هيئة المتاحف والآثار السودانية وذلك للتفاكر والتعاون في مخطط عمليات التنقيب عن الآثار في مناطق السودان المختلفة. وما يذكر أن في صميم دور الهيئة توفير المعلومات أو المساعدات الضرورية لعمليات التنقيب عن الآثار التي تنتهي مع فصل الشتاء.

بين أبرز المكتشفات المهمة التي توصّلت إليها مجموعة من الخبراء الأثريين من السودانيين والبريطانيين في الفترة الأخيرة مدينة ملكية كبيرة يرجع تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد في موقع ضناقيل، على بعد 350 كلم إلى الشمال من العاصمة الخرطوم.

وحسب التقارير المتوافرة عن عمليات التنقيب والحفريات التي أدت إلى هذا الاكتشاف في ضناقيل، فإن «المدينة الملكية» تعود إلى مملكة كوش التي قامت وازدهرت خلال الفترة الممتدة بين القرن الثامن قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي. أما اسم «ضناقيل» فيعنى «كسّارة الطوب»، وحقا، ترتفع في المكان أكوام من الطوب لأكثر من أربعة أمتار، وتمثل كل كومة منها مبنى قديما محفوظا بصورة جيدة.

الخبير الأثري السوداني الدكتور صلاح محمد أحمد، قال أخيرا لـ«الشرق الأوسط» خلال لقاء معه «إن البقايا الأثرية في ضناقيل محفوظة بشكل جيد، وتشمل معبدا كبيرا لم يكن معروفا من قبل، ويعود تاريخه إلى القرن الأول الميلادي، وهذا المعبد كان مخصصا لعبادة الإله آمون، إله العرش في مملكة كوش القديمة».

وتابع الدكتور صلاح شارحا «وما يذكر أن آمون يُصوّر في العادة من قبل الكوشيين كرجل برأس كبش، ويحيط بالمعبد حائط خارجي له بوابة مروحية من الجانب الغربي عبر مقصورة تفضي إلى باب المعبد. والطريق مرصوف بقطع من الحجر والطوب المحروق إضافة إلى بقايا العديد من تماثيل الكباش المصنوعة أو بالأصح المنحوتة من الحجر الرملي على جانب الطريق».

واستطرد قائلا «لقد أظهرت التفاصيل المعمارية استخدام التلوين، أو الألوان الصفراء والحمراء والزرقاء (وهي الألوان الأصلية الرئيسية الثلاثة)، تحديدا، في الجدران الخارجية للمعبد، وكذلك في الأعمدة، كما أمكن العثور على أنابيب مصنوعة من الفخار لتصريف مياه الأمطار وإبعادها من المبنى».

من ناحية أخرى، أوضح الدكتور صلاح أنه «اكتشفت أعمدة مزخرفة ومنحوتة من الحجر الرملي، إضافة لمذبحين وبنيان بمواجهة مداخل الطرق من الحجر الرملي، كما رصفت الأرضية ببلاط من الحجر الرملي. وعثر المنقبون أيضا على حجارة تحمل أسماء ملكية واسم الملكة أماني تيري، ووُجدت منصات ربما كانت تستخدم كقاعدة للعروش أو منابر للخطابة. ووجدت أيضا عروق نخيل محروقة في حطام المعبد وأوانٍ فخارية.. وما يقارب 1.200.000 قطعة فخار من آنية مخروطية الشكل وجرار كبيرة لاستخدامات غذائية».

وحول الخطط الموضوعة بالنسبة للموقع نفسه، أفاد الدكتور عبد الرحمن علي محمد، مدير عام المتاحف والآثار السودانية، «الشرق الأوسط» أنه «جارٍ الإعداد حاليا، وبجهود متعددة ومكثفة، من أجل ترميم وإعادة تأهيل هذا الاكتشاف الأثري الهام ليكون أحد المواقع الجاذبة للباحثين والمهنيين والسياح وغيرهم». ومن ثم كشف أن «هذا الاكتشاف الأثري المهم تحقق فعليا بفضل التعاون القائم بين هيئة المتاحف السودانية والمتحف البريطاني، في لندن»، موضحا أن قيادة عمليات التنقيب والمتابعة تولاها من الجانب السوداني الدكتور صلاح أحمد محمد ومن الجانب البريطاني الخبيرة البريطانية جولي أندرسون.