أمسية شعرية نظمها ملتقى الوعد الثقافي في جمعية الثقافة والفنون في الدمام

قاسم حداد وسيف الرحبي وبينهما تشتعل الموسيقى وتنتصب الصحراء

الشاعر محمد الفوز يتوسط قاسم حداد وسيف الرحبي خلال تقديم معزوفات على الغيتار
TT

في أمسية شعرية تعانق فيها الشعر والموسيقى، التقى رائدان كبيران من عمالقة الشعر الحديث في الخليج، في أمسية كانت قادرة على أن تشعل ليل الدمام البارد دفئا وحماسا، وتجمع تحت جمر القصائد رفاق الحرف، من جمهور الثقافة والشعر، الذين تقطعت بهم السبل طوال الشهور الماضية بسبب تدهور وضع مؤسساتهم الثقافية هناك ودخولها في سبات «ترتيب البيت الداخلي».

في أمسية شعرية باذخة المعاني، استطاع ملتقى الوعد الثقافي، بالتعاون مع جمعية الثقافة والفنون في الدمام أن يجمع الشاعر البحريني قاسم حداد، والشاعر العماني المعروف سيف الرحبي، وكلاهما يتمتعا بسمعة عابرة للحدود، ويعتبر رمزا أدبيا للثقافة الحديثة في منطقة الخليج، كما يتمتع كلاهما بالقدرة على حشد جمهور متعطش للشعر، ومتطلع للتجربة الشعرية الناضجة التي يملكانها.

أدار الأمسية الشاعر محمد الفوز. وصاحبها عزف على العود للفنان سامح إبراهيم، في حين عزف على الأورغ الفنان علي البوري، وعلى القيثار محمد السنان، كما صاحب الحفل معرض تشكيلي للفنانة حميدة السنان.

وبالنسبة لشاعرين كلاهما قدم للأمسية عبر البحر، حيث التقيا في البحرين، ومنها وصلا إلى الدمام، فقد التقيا في فيافي «الصحراء»، ليعبر كل واحد منهما عن قلق يسكنه من وحشة المكان الذي يتربص به، فالصحراء ظلت جامعا مشتركا لغواية القصيدة، يلتقي في أرجائها شاعران يهربان منها فيقعان فيها من جديد.

سيف الرحبي، المسكون بالصحراء، والمتوجس حد الرعب منها، فهي تنهش في روحه مثلما تنهش في ثنايا المكان، كان قد كتب ديوانا حمل اسم «رجل من الربع الخالي» تجلت فيه وحشة المكان، وقال ذات حوار لـ«الشرق الأوسط»، إن «وحشة الربع الخالي المرعبة والدمويّة صارت هي بوابة وحشة الوجود للكائن المقذوف في الكون والمصير. الربع الخالي تلك الصحراء الميتافيزيقيّة المهيبة، بعد أن فقدت براءتها الأولى ونقاءها، صارت تربض على الكوكب بأكمله، صارت هي العالم».

في أمسيته في الدمام مساء أول من أمس، أظهر شعرا ونثرا توجسه من الصحراء التي ينتمي لها رغم فاصل مياه الخليج، فقد ولد سيف الرحبي في قرية «سرور» عام 1956، في سلطنة عمان في منطقة لا يفصل بينها وبين الربع الخالي كبرى صحارى العالم سوى أقل من مائة كيلومتر، ورغم أن الجبل والبحر ظلا يحتضنانه، فقد كانا بالنسبة إليه مجرد «وكر» يفر إليه من الصحراء. بل إن البحر كان يكمل مساحة الرعب التي ظلت تتربص به وتستعرض نفسها في نصوصه، ليتمثل البحر أيضا فيما صار يعبر عنه في شعره «سلطة الصحراء اللانهائية»، حيث «البحر ليس إلا صحراء من المياه المتلاطمة»، وعبر البحار واصل الرحبي تنقلاته من فضاء إلى آخر، فهو الشاعر الذي أدمن الترحال وأصبح السفر ثيمة تلازم قصائده مثلما تلازم حياته، فقد عاش منذ صباه في القاهرة ثم دمشق والجزائر وباريس وأمستردام. وقال في حفل البارحة الأولى «بالنسبة لي فالصحراء، ولدت في قرية بين جبال وهي لا تبعد عن الربع الخالي سوى أقل من مائة كيلومتر، وهي صحراء جبلية وصحراء مروعة وموحشة هذا الموقع الجغرافي المكاني بني للشعر والأدب أكثر من العوالم الحضارية».

يعتبر الشاعر والناقد العماني سيف الرحبي، ظاهرة شعرية مليئة بالإثارة والتفاصيل، وهو إذ يعود إلى عشه في عُمان كطائر أتعبه الترحال بحثا عن فضاء يضج بالحرية، واستقلال لا تقيده الأنساق، وتمرد ظلّ ملازما له منذ حبا في بواكير صباه.

قاسم هو الآخر، كان له ثأر مع الصحراء، وهو القائل «أطلقْ حروفَك غيمةً في وحشة الصحراء»، وله قصيدة أخرى هي «صحراء / بلاد».

قاسم حداد، قرأ عددا من قصائده التي حواها كتابه الجديد «طرفة بن الوردة»، وهو الكتاب الذي أصدره أواخر العام الماضي عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، ويحكي فيه سيرة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد بصورة شعرية وصفها حداد نفسه بأنها سيرة تحكي قصة طرفة من وجهة نظر الشاعر نفسه لا من وجهة نظر أساطير الأولين، في هذا الكتاب ينتصر قاسم حداد إلى المرأة، فينسب الشاعر الجاهلي الكبير إلى أمه وردة بنت عبد المسيح. حيث يتوقف حداد في محطة تعتبر واحدة من أهم مراحل حياة الشاعر طرفة بن العبد، وهي علاقته المتوترة وصراعه مع الحاكم (عمرو بن هند) فيقول إن القصة لم تقنعه، ويصفها بـ«أساطير الأولين»، ولذلك فقد اتجه لـ«اختلاق» سيرة أخرى للشاعر الجاهلي من وجهة نظر قاسم حداد لا من وجهة نظر الرواية التاريخية التي يصفها حداد بالأسطورة.

ثمة رابط بين قاسم حداد وطرفة بن العبد، فكلاهما ينتمي لجزيرة البحرين، فقد ولد الشاعر قاسم حداد في البحرين عام 1948، كما ولد فيها طرفة بن العبد، واسمه عمر بن العبد ولقب بطرفة، سنة 543م، وهو ينتمي إلى أكبر قبائل العرب وهي قبيلة بكر بن وائل، وأمه وردة بنت عبد المسيح، عاش يتيما وضيق عليه أعمامه كما ضيقوا على أمه وردة أخت المقلي الشاعر وأخذوا حقها، وهو من عائلة شعرية فجده وأبوه وعماه المرقشان الأكبر والأصغر وخاله المقلي كلهم شعراء، وشقيقته الخرنق شاعرة. وقد قتل طرفة في عهد عمرو بن هند، ملك الحيرة سنة 569م، وله من العمر نحو 26 عاما، وسُمي بالغلام القتيل، ورثته شقيقته الخرنق.

وقاسم المنفلت من قيود الأشكال الشعرية، أطلق دعوة لانفتاح النص على آفاق تعبيرية لا تعرف الحدود، وهو الذي أخبر «الشرق الأوسط» أنه يحب «التحرك في السرد الشعري بحرية بعيدا عن الوزن، فالسرد الشعري يقع خارج التجربة العربية، وهذا السرد يفتح أفق القصيدة للشاعر ليكتشف جماليات اللغة العربية التي تشرع في منح جمالياتها بشكل لا نهائي بالغ التنوع والثراء». قال قاسم أمام جمهور يتابع خطواته ويقتبس من تجاربه، إنه مع «البحث عن شكل تعبيري ينقذ الكتابة من رتابتها ومن تكرارها ومن تقليد الذات»، مضيفا أن التجربة تصبح ممكنة «كلما استطاع الشاعر أن يقنع القارئ أن ما يكتبه شعرا بمعزل عن طبيعة النصّ الشعرية أو السرية. لأن الشعر هو خارج الأوزان والتفعيلات وهو شيء أكثر عمقا وجمالا من تلك القيود. فإذا تمتع الشاعر بالحرية والموقف والمعرفة خصوصا، وأظهر أنه مدرك للتجارب الأخرى، فهو يستحق تلك الحرية، ولن يعود مطالبا بأن يكون ملتزما بالشكل والقافية والسجع والجناس والموسيقى.. فكل هذه الأشكال تذوب في اللحظة الحميمية التي لا يمكن تصورها أو التعبير عنها».