3 حفلات «وداعية» لجولييت غريكو في باريس

المغنية الثمانينية التي كتبت مذكراتها مرتين

اللون الأسود شعارها دائما
TT

من يستطيع أن يخرج الباريسيين من بيوتهم ليلا في موجة الصقيع التي تجتاح البلد... غير جولييت غريكو؟ لقد نفدت تذاكر الحفلات الثلاث التي تحييها المغنية الثمانينية على مسرح «الشاتليه» في قلب العاصمة، اعتبارا من مساء اليوم. وهناك من أبناء الأجيال الجديدة من سيذهب لكي يرى رؤية العين ويستمع إلى الفنانة التي رافقت كبار شعراء ورسامي وموسيقيي القرن العشرين. لكن هناك، من بين قدامى عشاقها من سيذهب لكي يودعها في الحفل الذي يبدو وكأنه الظهور الأخير لها على المسارح بعد 70 عاما من معاقرة الكلمة الجميلة المغناة همسا.

إن أمثال غريكو لا يكتفون بإصدار كتاب واحد للمذكرات، فهي قد عاشت ما يكفي من السنوات والأحداث والتجارب والإبداعات والتأملات، منذ صدور كتاب مذكراتها السابق عام 1983، ما يكفي لأن يملأ كتابا جديدا. لذلك أصدرت دار «فلاماريون»، مؤخرا، مذكرات بعنوان «لقد جُبلت هكذا»، للمغنية التي تبدو بعد رحيل رفاقها وحيدة مثل نخلة عتيقة في بادية. إنها امرأة ترفض التقاعد ولا تمل من ارتداء السواد والتمسك بالكحل الأسود زينة وحيدة لأنها تعرف أن جمهورها لم يمل صورتها ولا صوتها. أما عن حياتها الماضية فتصفها بأنها «يمكن عبورها وهي جميلة»، وهو عنوان إحدى أغنيات أسطوانتها الجديدة.

كتاب وأسطوانة وحفلات لفنانة قاربت الخامسة والثمانين من العمر؟ تريد جولييت غريكو أن تؤكد، حتى الرمق الأخير، مفهوم المرأة العصرية التي سبحت عكس التيار وتلقت من الضربات ما جعلها أقوى. لقد ولدت في مونبلييه، تحت شمس جنوب فرنسا، قبل أن تنتقل إلى العاصمة وتنصب خيمتها في أزقة الحي اللاتيني. وكانت باريس آنذاك تلعق جروح الحرب العالمية الثانية وتحتفل بخلاصها من الاحتلال النازي وتحصي خساراتها وتسعى لتعويض ما فقدته في حركة عمرانية وإبداعية محمومة. وفي تلك الأجواء كسبت غريكو قوتها من أعمال صغيرة ومن الظهور في أدوار مسرحية هامشية وعاشت سنوات بوهيمية تبحث فيها عن موقع لموهبتها في الغناء، معتمدة على نصوص لشعراء كانت تلتقيهم في مقاهي الحي ولملحنين صاروا من نجوم الفن فيما بعد. لقد كبرت مع جاك بريفير وجورج براسنز وريمون كينو، وربطتها صداقات مع سارتر ودو بوفوار وكامو وبيكاسو ومالرو وكوكتو وأراغون ومرغريت دوراس، وكانت ملهمة للكثيرين والمعشوقة المثالية لتلك المرحلة بفضل ملامحها المستفزة وتمردها الذي كان طبعا فيها. أليست هي المرأة التي سئلت عن عدد المحبين الذين مروا في حياتها فأجابت: «يلزمني كتاب مثل دليل التليفون»؟

حين بدأت تغني لم تتعثر، بل سعى الجمهور إليها وملأ كبريات قاعات الموسيقى في باريس مثل «الأولمبيا» التي كان موعدها الأول معها عام 1954. لقد شجعها أصدقاؤها الكتاب والشعراء وكانوا قادرين على رفع من يشاءون وتغييب من لا يروق لهم. ولما ذهبت لإحياء حفلة في برلين جلس أمامها 60 ألف مستمع يصغون إليها تغني «لو أنك تتخيل نفسك...». أما في الولايات المتحدة فقد كانت المغنية التي عرّفت الأميركيين بكبار شعراء فرنسا المعاصرين، ذلك أن جولييت غريكو لم تكن تغني أي كلام، بل المختار من الأشعار الحديثة التي تهمس بها وكأنها تلقيها بصوتها الرخيم المميز. وحتى هوليوود لم تدع المغنية الآتية من باريس تمر مرور الكرام. لقد ظهرت في أفلام مع كبار النجوم وأولهم أورسون ويلز. وروت تفاصيل تلك اللقاءات في كتبها ومقابلاتها، مثلما رفعت الستار في كتابها الأخير عن طفولتها الشقية وتحدثت عن والدتها التي لم تكن تريدها، وعن إجهاض تعرضت له وهي في العشرين. أما «الخبطة» الجديدة فهي أن والد الطفل كان بطل سباق السيارات جان بيير فيميل الذي كان متزوجا ويكبرها بعشرين عاما. وقد قتل فيميل بعد ذلك بسنة في حادث سيارة أثناء مشاركته في سباق جرى في الأرجنتين. وتكتب غريكو: «عشت مع أوجاع فقدانه مخبأة بعناية في أعماقي».

تروي أيضا أنها رغم قوة شخصيتها لم تحتمل كثرة النفاق والتقولات الشريرة في الوسط الفني، فابتلعت ذات يوم كمية من الحبوب المنومة، ثم شاء القدر أن تأتي لزيارتها صديقتها الكاتبة فرانسواز ساغان وتجدها فاقدة للوعي وتطلب الإسعاف. ثم عاد الموت لمناوشتها عندما أصيبت بجلطة قلبية وهي تغني على المسرح في مهرجان «بورج»، وتنجو منه مرة ثانية وتعيش لعقود طويلة تالية وتحضر جنازات رفاقها من عمالقة الأغنية الفرنسية مثل جاك بريل وليو فيري وجورج براسنز وإيف مونتان وسيرج غينزبور.

كانت تغيب أحيانا دون أن تتوارى، وعرفت كيف تقدم الأغاني الجديدة وتشارك في مسلسلات تلفزيونية وأعمال مسرحية بحيث يبقى اسمها حاضرا. كما سعت إلى الانسجام مع متطلبات العصر وبدأت تتعامل مع كتاب نصوص وملحنين من الجيل الشاب. وبين حين وآخر كانت غريكو تفاجئ جمهورها بأسطوانات ذات عناوين لافتة مثل «نهار صيف وبضع ليالٍ»، أو «أحبوا بعضكم بعضا أو اختفوا». وفي سن السابعة والسبعين قامت بجولة غنائية عالمية لقيت نجاحا كبيرا.

حافظت جولييت غريكو على جانب من الغموض في شخصيتها. ولم تستقر في الحب لكنها اشتهرت بوفائها في الصداقات والعمل. وظلت تعمل مع الشعراء والملحنين والعازفين الذين تعاملت معهم قديما، حتى تقاعدهم أو رحيلهم. وقد تزوجت ثلاث مرات، الأولى في بداياتها ولفترة وجيزة، حيث رزقت بابنتها الوحيدة. ثم اقترنت بالممثل المعروف ميشال بيكولي عام 1965 ولفترة وجيزة أيضا. وكان الزوج الثالث هو رفيقها عازف البيانو جيرار جوانيه الذي كان صديقا لها منذ البدايات.

إنها اليوم زعيمة جمعية الحفاظ على تراث حي السان جيرمان، تلك البؤرة الثقافية التي شهدت ولادة الأفكار الوجودية والسريالية والموجة الجديدة في السينما، قبل أن يتناقص عدد مكتبات الحي ودور النشر فيه لصالح محلات الثياب ومطاعم البيتزا.