توثيق تاريخ مقر صندوق الأوبك للتنمية الدولية في النمسا

قصر ثوفيل هانسن للأرشيدوق فيلهلم عاصر أحداث جزء من تاريخ فيينا

قاعة الاجتماعات في القصر
TT

في مجلد من 211 صفحة من الحجم الكبير، وثق صندوق الأوبك للتنمية الدولية «أوفيد» أخيرا تاريخ قصره الفخم الذي يعود إنشاؤه للسنوات 1864 – 1866 بالعاصمة النمساوية فيينا.

سليمان الحربش، مدير عام «أوفيد» قدم المجلد في أمسية دعا لها نخبة من مجتمع فيينا الدولي والمحلي احتفاء بمرور 36 عاما على إنشاء الصندوق، فيما تم الإعلان عن التبرع بكل ما تجود به أريحية الحضور مقابل الحصول على المجلد لمنظمة «سوبرار» المعنية بتنشئة فنية موسيقية لموهوبين محتاجين من أطفال فيينا، كان فريق منهم قد شارك في تقديم وصلات بالحفل، وقد سبق لـ«أوفيد» أن قدم لهم مساعدة مالية ضمن مبادراته لإسداء الشكر والتقدير لدولة وشعب النمسا على حسن الضيافة.

من جانبه، أشار الدكتور أندرياس بوكورني، مستشار عمدة فيينا للشؤون الثقافية والعلمية لاعتزاز المدينة بالقصر التاريخي، معبرا عن عميق تقديرهم لما يقوم به «أوفيد» من عناية بالقصر ولما يقدمه من مساعدات لتنمية مستدامة.

وكما يشير عنوان المجلد «قصر ثوفيل هانسن للأرشيدوق فيلهلم.... حياة وأزمان» فالقصر الذي يعتبر معلما من معالم فيينا قد عمر عبر سنوات وأزمان عاش خلالها أكثر من قصة وشهد خلالها أكثر من حدث مما جعله أكثر أهمية من مجرد كونه مبنى فخما وعريقا فحسب إذ تعود أهميته، كذلك، لما عاصره من وقائع هي جزء من صميم تاريخ مدينة فيينا، منذ أن كانت عاصمة إمبراطورية أوروبية ضخمة إلى يومها هذا كعاصمة تفتخر بحضور عالمي وتتباهي بإرث تاريخي ومعالم تجعلها من أهم العواصم سياحيا.

بني القصر كمسكن خاص، للدوق فيلهلم وهو حفيد غير مباشر للإمبراطورة ماريا تريزا، وصديق حميم للإمبراطور فرانس جوزيف آخر أباطرة الهابسبرغ، كان من كبار قادة الجيش وممن لهم أنشطة اجتماعية وخيرية أكثر ما تمثلت في رعايته للطائفة العسكرية الدينية «التيوتونيك أوردر».

تربى الدوق فيلهلم ونشأ على يد والده بعد وفاة والدته وعمره عامان، فدللـه كما دللـه شقيقه الأكبر الدوق البرشخت مالك قصر الألبرتنيا الذي أمسى حاليا متحفا من أرقى متاحف فيينا للوحات الفنية على بعد خطوات من مبنى الأوبرا.

تشير الوثائق إلى أن الدوق فيلهلم كان رجلا كريما أنيقا ذواقا للموسيقى، وفارسا مغوارا، ودبلوماسيا من الطراز الأول أوفده الإمبراطور لعقد صلح مع روسيا كما كلفه بشؤون إقليم جنوب تيرول، إضافة لذلك فقد كان رجلا شديد التدين وفيا، حال اختلاف عقيدته بينه وبين الزواج من المرأة التي أحبها فعاش عازبا.

هذه الصفات مجتمعة انعكس تأثيرها في مسكنه، إذ رفض على سبيل المثال، أن يتم تزيينه بأية تماثيل لنساء عراة مفضلا مجسدات ومنحوتات لأزياء حربية وتماثيل فرسان مما أكسب مظهر القصر الكثير من الكبرياء والرصانة وشيئا من الجمود إن شئنا الدقة، وبالطبع واجه اختياره اعتراضات بدعوى أن في ذلك تجسيدا للعصور الوسطى، وأن التماثيل الحربية لا تتناسق وما اختاره في مواقع أخرى من لمسات ونقوش رقيقة ومنمقة تعود لعصر النهضة وأسلوب الكلاسيكية الجديدة أو حتى لأسلوب الباروك الذي استمد قبسات منه في أكثر من موقع بالقصر.

أما فروسية الدوق فأكثر ما تجسدت في المساحة الواسعة التي طلب تخصيصها لإسطبل رعى فيه 20 من أجود أنواع الخيل مع عدد من العربات (رغم أن الإمبراطور كان يسمح للمقريبن باستخدام ما شاءوا من عرباته وخيولها) والتي كساها بصباغ وملابس شتوية وأخرى صيفية.

في هذا لم يجاف الدوق نمط قصور رفاق آخرين ممن اهتموا بالخيل وعرباتها اهتماما يماثل اهتمام كبار أثرياء اليوم بأساطيل سياراتهم وجراجاتها.

كان الإسطبل يقع مباشرة على يمين مدخل القصر حيث لكل حصان موقف محفور عليه اسمه كما وفر لكل منها طبقا في شكل سلة معدنية علقت لطعامه، كذلك تمت الاستعانة بنظام صرف لنقل مخلفات الخيل عبر أنابيب بالإضافة لاستحداث نظام تهوية يحفظ المكان جافا دون رائحة، واختار الدوق لسكنته شقة بالطابق الثالث من قصره الذي يتكون من 5 طوابق تتفاوت في طول جدرانها بصورة تجعل الفسحة التي تتوسط القصر «الكورت يارد» وتربط بين الطوابق والتي سقفت بالزجاج تبدو بمثابة صالة شاهقة الارتفاع فيما تربط سلالم دائرية كل طابق بالآخر، إلى ذلك خصص الدوق للطعام غرفة بيضاوية الشكل تم تزيينها بثريات جانبية حتى يظل السقف لوحة بدوره فيما نقشت جدرانها بنقوش مذهبة تتوسطها منضدة بيضاوية يحافظ عليها «أوفيد» كتحفة تراثية شديدة الجمال ولا يستخدمها لغير اجتماعاته الوزارية واجتماعات مجلس المحافظين.

هذا فيما تنوعت ولا تزال تتنوع استخدامات الصالة الداخلية التي تتوسط القصر، ففي عهد الدوق وعهد وريثه كثيرا ما استخدمت كمدرسة شتوية للفروسية وأحيانا لاستضافة الحفلات التقليدية الراقصة فيما يستخدمها «أوفيد» مرارا لحفلات الاستقبال بينما يستخدم الإسطبل كقاعة معارض لتلك التي يرعاها لنشر فنون وثقافة دوله الأعضاء والدول المستفيدة. وضمن برنامج الأخير، تم تحويل ديكور وأثاث ما كان إسطبلا إلى ما يشبه المقاهي النمساوية، بوضع بيانو في الوسط مع مناضد ومقاعد وفرت للمدعوين سنحات أنس وتناول فنجان قهوة أو شاي مع توابعهما من حلويات ومخبوزات من تلك اللذيذة التي تشتهر بها مقاهي فيينا.

وكان ذات الإسطبل قد تحول قبل سنوات بمجهود وإبداع عضوات من الجمعية الأفريقية لسيدات المنظمات الدولية «الأمم المتحدة والأوبك» إلى غرفة طعام عرضن فيها بوفيها فخما لأطعمة أفريقية شعبية متنوعة بمناسبة حفلين خيريين نظمنهما بالقصر وعاد ريعهما لمشاريع تنموية تعتني بالأم والطفل بثماني دول أفريقية.

شيد القصر المهندس المعماري الدنماركي الأصل إغريقي الدراسة، ثيوفيل فون هانسون، الذي اشتهر بتشييد مبان من أجمل المباني بالعاصمة النمساوية ومنها مبنى البرلمان، ومبنى الميوزيك فراين الذي يعتبر واحدا من أجمل 5 قاعات موسيقية عالميا، ومن مبانيه أكاديمية الفنون ومبنى البورصة والكنيسة الأرثوذكسية الإغريقية أما في العاصمة اليونانية أثينا فقد شيد مبنى المكتبة الوطنية وأكاديمية الفنون والجامعة.

عرف عن هانسون غرامه بأسلوب «النيوكلاسيزم» أو الحركة الكلاسيكية الجديدة التي بدأت 1765 لرغبة في العودة لجماليات الفن القديم في النحت والعمارة والتي كثيرا ما اهتمت بمثالية الأسلوب الإغريقي والروماني، وقد وصفه كثيرون بأن في دواخله فنانا معاصرا حتى عندما لجأ للمسات تعود لعصر الباروك واعتماد الأعمدة والأقواس للإيهام بمساحات أكبر جنبا إلى جنب المستطيلات والسقوف الممتدة في استقامة.

وفقا لوثائق القصر المحفوظة بأكاديمية الفنون الجميلة وبأرشيف منظمة التيوتونك أوردر فإن أول علامة مميزة للقصر تجيء من كونه ثاني مسكن خاص يتم تشييده بالإضافة للمقر الشتوي للإمبراطور بقصر الهوفبورغ بشارع الرنق أو الشارع الدائري الذي يرسم طوقا حول القلب القديم أو مركز فيينا الإمبراطوري، ولكم أن تتخيلوا جمال وفخامة هكذا مركز وقلب..!! يمتد القصر في مساحة 2133 مترا مربعا. وقدرت تكلفته النهائية حينذاك بـ 1.2 مليون فلورين. يستقبل الجزء الأمامي من القصر الشمس ما إن تشرق كما تفتح أبوابه مواجهة لحديقة من أجمل الحدائق العامة بالعاصمة النمساوية «الاشتات بارك» والتي كانت تضم منصة خصصت فقط للفرقة الموسيقية بقيادة الموسيقار النمساوي الأشهر يوهان شتراوس كما ضمت ولا تزال تمثالا ذهبيا لشتراوس وصالونا للحفلات الراقصة وبحيرة.

بوفاة الدوق، 1898، تحولت ملكية القصر لوريثه ابن أخيه الدوق أيغون الذي سار على نهج عمه بأهمية العيش عيشة مرفهة لم تنسه فضيلة التبرع لمساعدة المحتاجين وإعانتهم. ويعرف عنه أنه بنى عددا من المستشفيات ومول مدارس كما يشتهر بأنه أول من امتلك سيارة حديثة ومنح رخصة قيادة بتاريخ 7 يناير (كانون الثاني) 1906. مثله مثل عمه كان الدوق أيغون من كبار رجالات الجيش كما حمل درجة الدكتوراه الفخرية من جامعتي زغرب وأنزبورك وتشرف بعضوية عدد من الجمعيات الموسيقية والخيرية.

بنهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية إمبراطورية الهابسبرغ كان الدوق أيغون قد قرر الرحيل من فيينا ومن القصر الذي صادرته الجمهورية النمساوية الأولى في العام 1923.

في الفترة من 1920 ولمدة 10 سنوات ظل القصر مؤجرا للمنظمة الطبية الدينية الكاثوليكية عسكرية الطابع «تيوتونك أوردر» التي رفعت شعار «تطبيب واستشفاء» فيما تم تأجيره لاحقا لأكثر من جهة فرض عليها عدم استغلاله لأية أغراض سياسية أو ضد الدين وظل على هذا الوضع إلى أن استولت عليه قوات النظام النازي التي استباحت فيينا وحولته حتى عام 1945 إلى مقر لرئاسة جهازها للأمن والاستخبارات والبوليس الحربي فدخل مثله كمثل فيينا حقبة سوداء، وإن ظل مركز قوة وسلطة مفرطة دون شك.

بنهاية الحرب العالمية الثانية واندحار قوات النازية لم تغادر الشرطة القصر وإن أصبحت بحلول الجمهورية الثانية نمساوية 1955 ديمقراطية يحكمها قانون حيث كان القصر مقرا لشرطة العاصمة فيينا باعتباره جزءا من ممتلكات حكومتها وذلك حتى عام 1982 عندما اشتراه صندوق الأوبك للتنمية الدولية الذي يعتز به أيما اعتزاز ويعتبره رصيدا من أثرى أرصدته.