المخرج جاكو: فاجأني «برلين» مرتين

في مهرجان برلين السينمائي الدولي (2)

الممثلة ديان كروغر تقف للتصوير على البساط الأحمر قبل حضورها العرض الأول لفيلمها «وداعا ملكتي» في مهرجان برلين السينمائي (أ.ف.ب)
TT

إذا ما كان هناك شيء خاص بالنسبة لفيلم الافتتاح «وداعا يا ملكتي»، فإنه في حقيقة أن الدراما التاريخية التي تنتجها السينما الفرنسية من حين لآخر تتوخّى الكثير من التفاصيل التصميمية والديكوراتية لأجل خلق الجو الصحيح. صحيح أن هذا هو المعتاد بالنسبة للأفلام المسمّاة Period Drama، أي تلك التي تذهب إلى التاريخ البعيد، إلا أن الموضوع الفرنسي تحت حماية مخرج فرنسي هو أمر آخر.

فيلم ترفنييه كان «أميرة مونتبنسييه» حمل التفسير الذاتي للتاريخ وهذا ما لم يكترث له بنوا جاكو في فيلمه الذي افتتح الدورة الثانية والستين من المهرجان. عوض هذا، حاول تقريب صورة إلى حد كبير عاطفية وإلى حد معين تعاطفية مع وجهة نظر مفتوحة لا تغضب أحدا وتحيط بكل العناصر المتوخاة في فيلم من هذا النوع.

التقيت المخرج في صالة فندق قريب ولم تكن مقابلة بل حديثا دام بضع دقائق، قال فيه إن وجوده في هذا المهرجان مفاجأة مزدوجة: «مفاجأة سعيدة بالطبع. أولا لأن الفيلم اختير في برلين، وكنت أعتقد أن نظرة فوقية للتاريخ قد لا تجعل هذا الموضوع محببا، وثانيا حين أعلموني أن الفيلم اختير للافتتاح».

إذا ما كان هناك شيء مثير حقا للاهتمام، فهو في أن المخرج وضع بطلته وسط نساء أخريات. رغم ذلك، فهو كما لو أصبح مضطرا لأن يخاطب الجمهور الباحث عن الأوبرات المسرحية. يرد: «لا ضير في ذلك. ما فعلته هو أني منحت المرأة الحضور الصحيح الذي تتطلبه. المرأة في الحياة وعبر الأزمنة هي عدة نساء. كل امرأة تختلف عن الأخرى دائما».

اختيار هذا الفيلم المتوسط ليس تأكيدا على شيء معين. سيبقى الأمر حكرا للجنة التحكيم لكي تقرر لمن ستمنح الدب الذهبي والدبب الأخرى الأصغر. رئيس اللجنة المخرج البريطاني مايك لي، وفي عضويتها المخرجان الهولندي أنطون كوربين والإيراني أصغر فارهاد الذي كان نال دب برلين الذهبي في العام الماضي عن «انفصال». إلى جانب الثلاثة، هناك الممثلة الألمانية باربرا سوكوفا والممثل الأميركي جايك جلنهال والمخرج الفرنسي فرنسوا أوزون والممثلة الفرنسية شارلوت غينبسبورغ.

وفي رد على الانتقاد الذي واجهه رئيس المهرجان دييتر كوزليك من جانب مسؤولين ألمان كما من بعض الإعلاميين والصحافيين المتابعين ومفاده ميل المهرجان لعرض أفلام هوليوودية أكثر مما يجب، حصر الرئيس السينما الأميركية بفيلم متنافس واحد هو «سيارة جين فوندا» الذي هو ثاني فيلم من إخراج الممثل بيلي بوب ثورنتون من بطولته مع جون هيرت وكيفن باكون وروبرت دوفال. وهو على عكس المتوقّع لا يدور حول الممثلة المعروفة، بل تحت مظلة الفترة التي عاشت فيها.

أما الباقي، فقادم من سينمات كثيرة تشمل القارات الخمس وتتمتّع بمواضيع مختلفة وطروحات متعددة بحيث من الصعب القول إن هناك صفة واحدة تميّز هذه الدورة عما عداها أو عن دورات المهرجانات الكبرى الأخرى في العام الماضي.

«على الأقل، لا نغير رئيسنا كل بضع سنوات»، يقول أحد الصحافيين الألمان الذين اعتادوا الجلوس على نفس الكرسي في كل دورة وفي كل فيلم منها، ثم يضحك ويضيف: «حتى الآن على الأقل».

وإذا كان القصد هنا التعليق على قيام مهرجان فينيسيا السينمائي باستبدال رئيسه ماركو مولر هذا العام بآخر، فإن هناك مؤشرات تفيد بأن عددا آخر من المديرين سيُستبدلون هذا العام أيضا. مدير مهرجان أدنبره الجديد يبتسم لهذه الخاطرة ويقول: «بالنسبة لي، لقد عينت للتو ولا أتوقع أن أكون من بين من سيتم استبدالهم عما قريب».

السينما الأفريقية تعود بفيلم «اليوم»

* ثاني فيلم عرضته المسابقة هو «اليوم» المقدم باسم السنغال وفرنسا (عادة في هذه الحالات فإن التمويل الفعلي فرنسي) وهو للمخرج ألان غوميز المولود في باريس من جذور أفريقية. في أفلامه عموما، تحدّث المخرج عن شخصيات تتهاوى أمام حالات هاربة من أي ضوابط. أبطاله، كما في فيلمه القصير «أحمد» (2006) لا تجد من ينقذها من وضع ليس من صنعها، وإن كان فليس من صنعها وحدها. هنا في هذا الفيلم الروائي الطويل، نجد بطله ساتسي (الأميركي ساوول ويليامز) يستيقظ صباح أحد الأيام. عيناه مثبّتتان على الكاميرا لبعض الوقت. ينهض من فراشه. يرتدي قميصا أحمر ثم يخرج من غرفته لغرف البيت الأخرى المزدحمة بمن جاء يرغب في توديعه. هناك والدته وشقيقه وأقارب وجيران والمناحة قائمة. لا نعرف ما الذي أوعز بأن سانسي سيموت، لكن الجميع يعامله على هذا الأساس. في باحة البيت يجلس محاطا بالجالسين وكل لديه ما يقوله. الخطب تبدأ بالتطنيب: أنت قلبي (تقول له والدته) ثم تنتهي بمن يهاجمه لأنه «أناني»، متفرّد، لا يفكّر إلا في نفسه.

بعد ذلك (سبع دقائق من الفيلم)، يخرج من البيت إلى الشارع فإذا بجو مختلف آخر: شبان البلدة وشاباتها، شيوخها وأطفالها، يخرجون فرحين به. ليس لنا علم إذا ما كانوا يعلمون أن الرجل قرر أنه سيموت هذا اليوم أم لا. فإذا كانوا لم فرحهم؟

في الحقيقة، هناك أسئلة تطل برؤوسها طوال الفيلم. المخرج لا يكترث لتعريفنا بتلك الشخصيات التي يلتقيها ولماذا اختار بطله الالتقاء بها دون ما سواها. طبعا نعرف أنه أمام عشيقته ثم لاحقا ما يعود إلى زوجته، لكن الرحلة لا تبدو مترابطة أو مسنودة بدعم درامي كفيل بجعل السرد حيويا. والأربعون دقيقة الأولى يشوبها ذلك الشعور بأن الفيلم إذا ما استمر على منواله المراقب من دون فحوى جيد، فإنه في أفضل حالاته سيكون هدرا للوقت. لكن نصف الساعة الأخيرة هي أفضل ما فيه. الشعور بالوحدة وسط ظروف الحياة المكفهرة، وصراخ الشارع وفوضى الاقتتال يوغل فيه ويتركه حزينا كما بدأ. بعد ذلك، حين يؤم منزل عائلته يلتقط المخرج شواهد أخرى على وضع بطله. لقد ترك العائلة وهاجر إلى الولايات المتحدة طويلا قبل أن يعود. لا عجب أن زوجته تتصرف حياله ببرود شديد، وذلك حتى قبل ساعات قليلة من موته مستريحا على كرسي في باحة البيت.

هذه المراحل من الحياة التي تمضي في يوم واحد، وذلك التطور الذي يضيف بعض الثراء للفيلم ليست كافية لغض النظر عن فقدان الفيلم لعناصر كان من شأنها، لو توافرت، أن تحوّل شخصية تبدو تائهة لشخصية تبدو تائهة لأسباب أقوى. مع كثرة الأسئلة التي لا جواب لها، فإن العمل يدخل في حلقة من الألغاز وتكرار في المواقف غير المفهومة.

عبر تكديس تلك المشاهد المتناولة ببطء والمنتقلة عبر نماذج من الحالات والشخصيات المحيطة ببطل الفيلم، ينجح الفيلم في النهاية في تجسيد أزمة السنغالي مع نفسه وأزمة في الخلفية للمجتمع أيضا. المخرج على قدر من الذكاء يمكّنه من عدم تسديد وجهات نظر مباشرة لأي منهما. بطله لن ينتحر لكنه يدرك أنه سيموت. وطنه لا ينتحر لكنه يعيش صناعيا، وكلاهما يحيا بحزن وببطء، وهذا كل ما طلبه المخرج غوميز من فيلمه.