علاقة فان غوخ بالطبيعة في معرض استعادي بفيلادلفيا

يضم أعمالا نفذها على مدى السنوات الأربع الأخيرة من حياته

TT

أثرت الطبيعة في الفنان الهولندي فينسنت فان غوخ وقامت بتهدئته في الوقت نفسه. وقد ألهمته المناظر الطبيعية بعضا من لوحاته التي لا شك في كونها لوحات مبتكرة، مشتعلة على السطح، ونابضة باللون، وغارقة في المشاعر والأحاسيس.. فهي بمثابة أدوات فظة لا تقاوم للمشاهدة. غير أن الطبيعة - وخاصة تفاصيلها الدقيقة - قد عززت من حدة إبصاره، وهدأت ولطفت من طبيعة شخصيته، التي اتسمت بكونها غير مستقرة في كثير من الأحيان.

وتلاحظ المؤرخة الفنية، آنابيل كينيل، في الكتالوغ المصور لمعرض «فان غوخ عن قرب»، وهو المعرض الإحيائي المقتضب، المقام في متحف فيلادلفيا للفنون، إشارات فان غوخ المتكررة في رسائله إلى «شفرة من العشب»، و«شفرة واحدة من العشب»، و«شفرة مغبرة من العشب»، حيث لم يكن يعتقد فقط أن هذا الشيء الصغير والمتواضع كان موضوعا جديرا بأن يكون موضوعا فنيا - كما يتبين من الأعمال الفنية التجارية الغزيرة للفنانين اليابانيين الذين كان غوخ شديد الإعجاب بهم - بل كان يستحضره في ذهنه كنوع من آلية موجزة لاستعادة التركيز. وقد أوصى، في ما كان يكتبه لشقيقة زوجته، بالتركيز على «شفرة من العشب» كوسيلة للتهدئة بعد الاضطرابات التي تحدث للمرء عقب قراءة أعمال شكسبير.

وقد قام بتنظيم معرض «فان غوخ عن قرب» يوسف رشيل، وجنيفر طومسون، وهما اثنان من القيمين في فيلادلفيا، بالتعاون مع كينيل، التي تعمل كأمينة في المتحف الوطني لكندا في مدينة أوتاوا، وكورنيليا هومبورغ، وهي باحثة مستقلة.

ويدرس المعرض علاقة فان غوخ بالطبيعة في أكثر جوانبها حميمية، قاطعا طريقا مختصرا خلال إنجازاته، من خلال 45 لوحة، صغيرة في الغالب، والتي تبدو في بعض الأحيان وكأنما رسمها الفنان في عجالة. ويتمكن المعرض، من خلال قيامه بهذا، من تعريفنا بحجم إنجازات غوخ من خلال رؤية جديدة تجعلنا نرى أعماله من وجهة نظر مختلفة.

ويركز المعرض على ميل فان غوخ لتصوير الطبيعة من مسافة قريبة، سواء من خلال التفاصيل المزدحمة أو الشعور المضغوط للغاية بالمساحة، وهو ما تحقق في بعض الأحيان عن طريق الخطوط الأفقية العالية وضربات الفرشاة السميكة التي تعمل على تسطح الصورة وتبدو كما لو أنها تدفع سطح اللوحة ليكون قريبا من المشاهد. ويشتمل المعرض على مجموعة من الأعمال غير المألوفة المجلوبة من الخارج، وبعضها لا يتذكر أحد أنه قد تم عرضه في هذا البلد من قبل. ومن ضمن اللوحات الممتازة بين هذه المجموعة، إحدى اللوحات العجيبة الغريبة التي تحمل اسم «حديقة في أوفير»، والتي تصور خليطا من ممشى منقط ومرجة خضراء مرتفعة رقطاء تتفجر منها الزهور البيضاوية المتشابكة التي تبدو على وشك التزحلق خارج اللوحة والسقوط في حجرنا.

وكما كان متوقعا، يركز المعرض، بشكل حصري تقريبا، على المناظر الطبيعية، إلى جانب بعض لوحات الحياة الساكنة، التي تصور الزهور والفواكه، والتي تعضده وتشد من أزره. ولكن المعرض خال من البورتريهات، والبورتريهات الذاتية، واللوحات التي تصور التصميمات الداخلية. وليس هناك سوى إشارات قليلة في هذه اللوحات، أو في النصوص الجدارية، أو في الكتالوغ الممتاز، والمليء بالرسومات التوضيحية، عن العلاقة المشحونة بين فان غوخ وبول غوغان، ونوبات المرض العقلي التي كانت تصيبه، وأذنه المقطوعة بشكل جزئي.

وعلى الرغم من أن المحبين لفان غوخ، باعتباره فنانا مخبولا يتمتع برؤية خاصة، قد يصابون بخيبة أمل من إنتاج المعرض هذا النهج الهادئ، إلا أنهم قد يقدرون أيضا مشاهدة رؤيته العبقرية ممثلة على هذا النحو الثابت المحدد في مجموعة من التجارب الملموسة عن العالم الحقيقي.

وتمتد أعماله المعروضة في هذا المعرض على مدى السنوات الأربع الأخيرة من عمره، والتي عمل فيها بشكل مكثف، والتي بدأت بوصوله إلى مدينة باريس قادما من مدينة أنتويرب، في أوائل مارس (آذار) من عام 1886، وانتهت بوفاته في أوفير، في يوليو (تموز) من عام 1890. وتبين ثلاث من لوحات الحياة الساكنة التي تصور مجموعة من الزهور، والتي رسمها في وقت مبكر من إقامته في باريس، كيف بدأ فان غوخ في تلك الفترة في الميل باتجاه الألوان الصارخة، والإضاءة الأكثر إشراقا، والتركيز على النواحي الملموسة التي تتميز بها المدرسة الانطباعية، والتي كان يراها للمرة الأولى. وقد ظل غوخ في باريس ما يقرب من عامين، عاش فيهما مع شقيقه، ثيو، وكيله الفني المخلص والداعم له، حيث كانا يتجرعان الفن، ويقابلان الفنانين، ويجمعان المطبوعات اليابانية، والتي كان غوخ يزين بها غرفته.

ولكن باريس تركت فان غوخ مرتبكا وعصبيا. وقد توجه غوخ في فبراير (شباط) من عام 1888 جنوبا إلى مدينة آرل، حالما بإقامة مستعمرة للفنانين، وإن كان قد ذهب للبحث بشكل أساسي عن الراحة في أحضان الطبيعة، جنبا إلى جنب مع الإضاءة والألوان التي من شأنها أن تمكنه من التفوق على الانطباعيين. والدليل على أنه فعل ذلك هو لوحة «حزم من القمح»، والتي تبدو وكأنها نسخة، تتسم بالهلوسة ومظاهر القوة، من إحدى لوحات مونيه، الذي كان غوخ معجبا به بشكل كبير.

وقد تم تقسيم لوحات هذا المعرض بشكل موضوعي - أو ربما بشكل طوبوغرافي، لكي نكون أكثر دقة - ووضعها في أقسام تحمل أسماء مختلفة، مثل «شفرات العشب»، و«آفاق عالية»، و«جذوع الأشجار والشجيرات». حيث تمكننا هذه الأقسام في جوهرها من تتبع فان غوخ عبر تضاريس مختلفة وهو يستكشف عددا من وجهات النظر وزوايا التصوير المختلفة، التي كان أغلبها قريبا من الأرض، أو من تتبعه وهو يقوم بتقليص المساحات المصحوبة بتناقضات هائلة تتعلق بمدى القرب والبعد، وهو أسلوب التقطه من المطبوعات اليابانية. وقد تم إدراج حفنة من هذه المطبوعات، بعضها مطابق لما كان يملكه غوخ، ضمن لوحات هذا المعرض.

وربما يكون الشيء الأكثر إثارة للدهشة هو أسلوبه السلس الذي ما زال موضع دراسة وإعجاب حتى وقتنا الحالي. وفي قسم «شفرات العشب»، تقوم اللوحات الزيتية بالتركيز على زهرة السوسن وسنابل القمح ومجموعة من العشب الشائك الذي تحوم حوله الفراشات البيضاء. ويستخدم ببراعة حركات الفرشاة السريعة للاقتراب من عناصر الطبيعة وسيقان وأوراق النباتات في وقت واحد، ويجعلك تشعر بأنها شيء طبيعي وليس مجرد لوحة، وذلك بفضل براعته في الحفاظ على حيوية ما يرسمه. ونفس الشيء ينطبق على لوحة «المطر»، إن لم تكن أكثر براعة في واقع الأمر، لأنها تجمع بين المادية والخيال في آن واحد.

وفي قسم «آفاق عالية» تجد فن الرسم الرائع يتجلى في كل شيء، حيث يتم ترجمة عناصر الطبيعة إلى مفردات من العلامات الرائعة، وتجد في بعض الأحيان أحد الألوان على لون آخر وأحد السوائل على سائل آخر. وفي أعمال من قبيل «الحقل وأكوام من القمح» التي يكون فيها الركام على شكل منازل، تجد التركيز ينصب على اكتشاف الغموض الموجود في اللوحات من حيث عناصر الطبيعة والنسق اللوني الموجود في اللوحة، حيث نرى ما لا يقل عن اثني عشر لونا مختلفا من اللون الأخضر الشاحب والأخضر بلون النعناع والأخضر المصفر التي تعكس الألوان الموجودة في الطبيعة. وكما هو الحال في كثير من هذه الأعمال، تتمتع أشكال اللوحات ومظهرها الخارجي بالمرونة، حيث تشبه اللوحات الخرائط البحرية التي توضح التيارات والدوامات، وتتحرك الفرشاة بشكل عمودي وأفقي، ثم بشكل قطري لتندمج معا في أفواج من الفواصل أو التعرجات.

في القسم الذي يحمل اسم «جذوع الأشجار والشجيرات التحتية»، يتم التعامل مع مزيج من العروش الرأسية والأنسجة الأفقية المنبسطة بطرق جذرية وغير جذرية. وفي قسم «شجيرات التحتية بشكلين»، ثمة توتر محتدم مشترك بين جذوع الأشجار العديدة، التي تتراجع في المساحة، والنباتات بالأسفل، المشار إليها بعلامات بالفرشاة باللون الأصفر والتي تظل ثابتة نسبيا في حجمها. ومقارنة بهذا الدفع والجذب التجريدي، ثمة أرجحية نسبية لـ«الشجيرات التحتية»، حيث يتطلع فان غوخ للوراء إلى كورو ومدرسة باربيزون، من خلال اللونين البني والأخضر الواقعيين، ولكن يطوقهما بمناخ ضبابي يعتمد على التنقيط.

وقد قلت قيمة العرض نسبيا بفعل الإلغاءات التي حدثت في اللحظة الأخيرة لعدة قروض تم التعويض عنها بلوحات أقل ارتباطا بموضوع المعرض. وبعض الأعمال الأصغر لا تمثل قيمة كبيرة، فهي لا تعدو أن تكون أكثر من مجرد أعمال تفتقد فيها آثار الفرشاة المنزلقة للاحتكاك الالتصاقي. ولكن حتى هذه اللوحات تحمل دلالات. فاللون الأصفر الزلق في لوحة «حافة حقل قمح مع الخشخاش» والانحدار المكتسي باللون الأبيض في لوحة «أشجار في حقل في يوم مشمس» تبدو محاولات للبعد عن رسم الكثير مما تتم مشاهدته في عملية المشاهدة نفسها، وفي الإضاءة الساطعة، تخفي اللوحات أكثر مما تبدي.

وتعكس تلك اللوحات جانبا مختلفا من الذكاء المتواصل، الذي يتطلع للمشاهد دوما، كما تم أيضا إعطاؤها أيضا حسا جديدا بالنظام والمكاشفة من قبل هذا العرض الرائع. لقد أدرك فان غوخ أنه كان على وشك الوصول إلى المعرفة وأراد أن نصل نحن أيضا إليها. كتب غوخ: «كم أحب أن أرسم لوحة بطريقة تجعل كل من يشاهدها يفهم معناها!».

* خدمة «نيويورك تايمز»