معرض لخرائط فرنسا المجسمة كما طلبها الملك لويس الرابع عشر

مدن كانت داخل الحدود وصارت خارجها وأخرى مسحتها الحروب

يضم معرض «الخرائط المجسمة» خرائط لمدن فرنسية كانت من مقتنيات الملك لويس الرابع عشر ثم الإمبراطور نابليون الثالث (رويترز)
TT

تحت القبة الزجاجية للقصر الكبير في باريس، يمكن للزائر أن يرى بطاح فرنسا كلها معروضة أمامه بشكل بارز. إنه معرض يقام حاليا في هذا القصر التاريخي الرائع الذي يقع ما بين مستديرة «الشانزليزيه» ونهر السين، وسط العاصمة، لخرائط البلد المجسمة التي كانت من مقتنيات الملك لويس الرابع عشر ثم الإمبراطور نابليون الثالث.

ولأن الخرائط المحفوظة في خزانات المتاحف كثيرة، فقد وقع اختيار المشرفين على هذا المعرض على الروائع منها. فهناك خريطة جديدة لفرنسا مساحتها 650 مترا مربعا تتوسط القاعة الفسيحة للعرض، ووضعت فوقها، في الأماكن الحقيقية، 16 خريطة بارزة لمدن البلاد وحدودها الاستراتيجية، تعود تواريخ إنجازها إلى القرنين السابع عشر والتاسع عشر. لكن المعرض الذي يقام في رحاب القرن الحادي والعشرين لا يقدم مجسمات جامدة فحسب، بل يستفيد من الوسائل التقنية والإلكترونية لعصرنا الراهن لكي تضيء على الخرائط وتساعد الزائر في استكشاف كل بقعة وكل زاوية أو منحدر في تلك الخرائط النادرة.

يشعر الزائر بأنه قائد عسكري يقف على مشارف خريطة مترامية الأطراف، يتحرك فوقها فرسان وخيول ومدرعات وعربات جند في ساحة معركة. إنها نسخة طبق الأصل من طبيعة الأرض المطلوب استكشافها، تتوزع في أرجائها المدن والجبال والأنهار والغابات والقلاع الحصينة. وتساهم لعبة الظل والضوء والتسجيلات الصوتية والخدع البصرية في سحب المتفرج من العالم الواقعي الذي كان فيه قبل لحظات، خارج القصر، لتقذف به إلى أعماق التاريخ، لاغية 3 قرون من الزمن وأكثر.

تشكل هذه الخرائط لمدن فرنسا الكبرى والحصينة جزءا من مجموعة بدأ العمل فيها عام 1668، تحت حكم لويس الرابع عشر الذي كان يلقب بـ«الملك الشمس»، ثم راحت تغتني حتى عام 1873. وطبعا، كان الهدف الأول من رسم تلك الخرائط، أو نحتها، عسكريا. وهي مصغرة بنسبة 1 - 600 وتسمح بوضع الخطط للمعارك الهجومية أو الدفاعية. واستقرار الأوضاع وانتفاء الهدف منها، نقلت للعرض في القاعة المطلة على النهر في متحف «اللوفر» ليكون لها هدف جديد هو أن تشهد لعظمة فرنسا. وبقيت في مكانها معروضة لكبار الزوار حتى 1777.

لإعداد تلك الخرائط الكبيرة، كان لا بد من إرسال فرق من المهندسين وخبراء المساحة والرسامين إلى كافة أراضي المملكة. أما وسائل تنفيذها فكانت كثيرة، مثل الخشب والورق والمعادن وحتى الحرير. وكان على المشتغلين فيها بناء نسخة دقيقة عما يشاهدونه على أرض الواقع من عمران وسدود وتضاريس ونبات، من دون أهمال أي تفصيل. وقد أصبح لتلك الخرائط متحف خاص تحفظ فيه. وكانت درة المجموعة خريطة مدينة «شيربور» على الساحل الشمالي لفرنسا، ومساحتها 160 مترا مربعا. وتسمح الخرائط المنجزة في عصور متتابعة من ملاحظة التغييرات التي طرأت على حدود البلاد عبر التاريخ. وهناك مدن كانت فرنسية في حينه، مثل «بيرغوبزوم» و«إكزيل» في الشمال الشرقي ثم صارت تابعة اليوم لهولندا أو إيطاليا. وعلى العكس، يلاحظ الزائر مدنا كانت أجنبية في الماضي وصارت، بعد ذلك، داخل حدود فرنسا، مثل «سانت أُومر» و«بيزانسون» في جنوب شرقي البلاد.

تنقلك الخرائط من منطقة «السافوا» شرقا إلى «غرينوبل» جنوبا، ومن «أُومبران» في أعالي جبال الألب إلى «ستراسبور» شرقا، وهكذا حتى تغطي البلاد كاملة. وكل واحدة من تلك الخرائط مرفقة بلوحات تشرح تاريخها السياسي والزمن الذي شيدت فيه مدنها وقراها ومعلومات مفصلة عن بيئتها. فمجسم مدينة «بريست» الساحلية الواقعة في أقصى غرب فرنسا والتي انتهى العمل فيها عام 1811، تقدم لنا أحياء المدينة القديمة التي زالت من سطح الأرض تحت وابل القصف في الحرب العالمية الأولى. وهنا لا يتوقف المعرض عند تلك الصورة، بل يقدم للزائر المشهد الحالي الذي صارت عليه تلك البقاع، في مقارنة تدخل فيها الصور الضوئية والأفلام ووسائل الإيضاح الإلكترونية الحديثة.

هذا المعرض هو أولى ثمرات «بيت التاريخ الفرنسي» الذي رأى النور مع بداية هذا العام. وكان وزير الثقافة فريديريك ميتيران قد اقترح على الرئيس ساركوزي تعيين المستشارة ماريفون دو سان بولجان رئيسة لهذا البيت الجديد. وهي شخصية قديرة عملت في إنتاج البرامج الثقافية للإذاعة وكانت مديرة للتراث في الوزارة ومسؤولة عن لجنة التاريخ فيها، فضلا عن عضويتها في مجالس إدارة متاحف ومؤسسات فنية كثيرة. وبحلول المرأة المناسبة في المكان المناسب، دشنت الدار معرض الخرائط المجسمة الذي كان القصر الكبير خير حاضن له. ويستمر المعرض حتى نهاية الأسبوع المقبل، على أن تبدأ الاستعدادات لإقامة معرض ضخم وشامل، في عام 2013، لكنوز أخرى من مقتنيات «بيت التاريخ الفرنسي».