«هوليوود».. والمستشارون العلميون لأفلام الخيال العلمي

يتم الاستعانة بهم من خلال برنامج للترفيه والعلوم تابع للأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم

د. ديفيد كيربي مؤلف كتاب «معاطف المختبر» («الشرق الأوسط) وغلاف الكتاب
TT

أفلام الخيال العلمي تحظى دائما بشعبية جماهيرية كبيرة وتسهم في تحقيق إيرادات عالية، وتحفل هذه الأفلام بالكثير من مشاهد الحركة والإثارة، بالإضافة إلى مشاهد علمية مثيرة، تتناول أبرز اتجاهات العلم والتكنولوجيا الحالية والمستقبلية، التي تسهم بصورة ممتعة ومشوقة في مساعدة المشاهدين والمتابعين على فهم واستيعاب العلوم والتكنولوجيا وتشجيع المناقشات العلمية، وكذلك التحذير مبكرا من مخاطر انفلات التجارب والبحوث والتطورات العلمية.

ويقف وراء المشاهد العلمية الدقيقة في أفلام «هوليوود» للخيال العلمي مجموعة من الخبراء والمستشارين العلميين، الأمر الذي يسهم مبكرا في تطوير المفاهيم العلمية الأساسية الكامنة وراء مشاهد هذه الأفلام ومساعدة المخرجين على الإدراك التام لرؤاهم التي تظهر على الشاشة، فمن خلال اللقاءات المتكررة بين المستشارين العلميين والمخرجين والمنتجين والكتاب، يتم طرح الكثير من الأفكار والمداخلات الجديدة والجادة التي تسهم في النهاية في إثراء وتطوير المشاهد العلمية الإبداعية الدقيقة في هذه الأفلام، التي تعمل جميعها على تقديم علم حقيقي واقعي فيها يحظى بالمصداقية والقبول لدى المشاهد.

ومن بين أمثلة أفلام الخيال العلمي، ذات المشاهد العلمية الدقيقة، التي أسهم فيها وكان وراء نجاحها مستشارون علميون، فيلم «2001: أوديسا الفضاء»، عام 1968، للمخرج والمنتج الأميركي الراحل ستانلي كوبريك، عن قصة قصيرة لكاتب الخيال العلمي أرثر سي كلارك، وكان المستشار العلمي والفني لهذا الفيلم عالم الفضاء الأميركي فريدريك أوردواي الثالث المتخصص في هندسة الطيران والفضاء والمعروف بمؤلفاته عن رحلات الفضاء، كما تم استشارة عالم الذكاء الصناعي الأميركي مارفن مينسكي بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي MIT)، حول جهاز الكومبيوتر الذكي «هال 9000» (HAL 9000) الذي سيطر على المركبة الفضائية في الفيلم، وفيلم «تقرير الأقلية» عام 2002، للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبيرغ، والمقتبس عن قصة قصيرة عام 1956 لكاتب الخيال العلمي الأميركي فيليب ديك، وكان المستشار العلمي لهذا الفيلم، عالم الكومبيوتر والمخترع الأميركي جون أندركوفلر، حيث صمم في الفيلم نظام كومبيوتري يعتمد على «تقنية الإشارات» (Gestures Technology)، ففي الفيلم يستخدم الممثل توم كروز (شخصية جون أندرتون)، قفازات سوداء بكشافات ضوئية صغيرة مثبتة بأصابع اليد كبديل لعمل لوحة مفاتيح وفأرة الكومبيوتر، وذلك لتصفح المعلومات والبيانات والصور الرقمية للمجرمين من خلال توجيه البيانات لاسلكيا كما يوجه قائد الأوركسترا فرقته الموسيقية. وفيلم «الرجل الحديدي 2» (Iron Man 2)، عام 2010، وهو بطل خارق ظهر في مجلات القصص المصورة «الكوميكس» (Comics) التي تحمل العنوان نفسه، عن شركة النشر الأميركية «مارفل كوميكس»، وقد ابتكر شخصية الرجل الحديدي، كاتب القصص الهزلية الأميركي ستان لي، وكان المستشار العلمي لهذا الفيلم، عالم الفيزياء النظرية مارك وايز المتخصص في فيزياء الجسيمات، بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتاك) في باسادينا بكاليفورنيا الأميركية، فالممثل الأميركي روبرت داوني جونير (شخصية المخترع توني ستارك أو الرجل الحديدي في الفيلم)، يقوم ببناء معجل جسيمات في ورشته لإنتاج عناصر جديدة، ومعجل أو مسرع الجسيمات، هو جهاز يتم بناؤه لتسريع وتصادم الجسيمات دون الذرية الصغيرة كالبروتونات، لإكسابها طاقة وسرعات عالية جدا، ويمكن أثناء ذلك خلق عناصر جديدة.

وحول العلاقة المتبادلة بين أفلام الخيال العلمي في هوليوود والمستشارين العلميين لهذه الأفلام، صدر حديثا كتاب مهم عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، بعنوان «معاطف المختبر في هوليوود: العلم والعلماء والسينما»، من تأليف الدكتور ديفيد كيربي (David Kirby)، المتخصص في دراسات وبحوث الاتصال في العلم (Science communication studies) بمركز تاريخ العلوم والتكنولوجيا والطب بجامعة مانشستر البريطانية، يتناول فيه دور العلم والعلماء في أفلام الخيال العلمي والكتب الهزلية، وكيف يمكن جعل هذه الأفلام جديرة بالتصديق. حيث يقدم الكتاب تحليلا مدهشا ومفصلا للعلاقة التكافلية والتكاملية والشراكة بين صناع أفلام الخيال العلمي والعلماء، التي تتضمن تقديم خدمات استشارات علمية واسعة النطاق، تشمل توفير أعضاء لإنتاج فيلم الخيال العلمي، وكيفية دمج الأفكار العلمية في هذه الأفلام، وصورة العلماء في الأفلام وعواقبها الهائلة في العالم الحقيقي، ويعد الكتاب دراسة شاملة مفصلة وصادقة لتاريخ تأثير العلماء على السينما والقصص، كما أنها خارطة طريق شاملة وضرورية وواقعية للتحديات التي قد تواجه المستشارين من العلماء والمهندسين والفنيين، في سعيهم الجاد نحو تقديم المشورة العلمية لصناعة السينما كمهنة. وفي حوار لـ«الشرق الأوسط»، مع مؤلف الكتاب ديفيد كيربي، وبسؤاله عن أهمية المستشارين العلميين لأفلام الخيال العلمي في «هوليوود»، أشار إلى أن صناع سينما الخيال العلمي في «هوليوود» يهتمون بجلب وإحضار المستشارين والخبراء العلميين لأنهم يعتقدون بأن العلم والتفكير العلمي يضيفان قيمة للترفيه في نصوص أفلامهم، فالعلم يقدم القيود اللازمة والمرونة في مساعدة السينمائيين على استخدام خبراتهم كفنانين مبدعين، وأضاف أن الحقائق العلمية تكون بمثابة نقطة انطلاق لصناع سينما الخيال العلمي، ثم بعد ذلك يستخدمون أحكامهم المهنية، لتحديد ما إذا كان هناك ضرورة لتغيير هذه الحقائق خلال الإنتاج، وبما يتماشى مع قيود صناعة السينما، التي تشمل الميزانية والقيود الفنية، والحاجة للإثارة، والمتطلبات الجمالية. وقال كيربي إن العلم هو مجرد وسيلة خلاقة لمنتجين المواد الترفيهية، ودور المستشار العلمي هو مساعدتهم على الاستخدام الجيد لهذه الوسيلة. وأضاف أن هناك معايير إضافية يأخذها صناع السينما في الاعتبار، وتتمثل في تحديد كيفية التعامل مع الوقائع الثابتة في السينما، مثل كيف سيتصرف عامة الجمهور عندما يكون هناك انحراف عن الدقة العلمية، وما الذي يمكن عمله إذا كانت هناك حقيقة تتناقض مع توقعات الجماهير.

وبسؤال كيربي، مؤلف الكتاب، عن أمثلة لبعض أفلام الخيال العلمي التي كان وراء دقتها العلمية ونجاحها مستشارون علميون، أشار إلى أن الكتاب مليء بالكثير من الأمثلة، التي من بينها فيلم الخيال العلمي «تقرير الأقلية» عام 2002. وقال إن المستشار العلمي له كان عالم الكومبيوتر والمخترع الأميركي، جون أندركوفلر. وكان مسؤولا عن المساعدة على تصميم كل التكنولوجيات في هذا الفيلم، فكان تركيزه الأساسي قائما على تصميم نظام كومبيوتري يعتمد على تقنية الإشارات، مكن بطل الفيلم جون أندرتون (الممثل توم كروز) من استخدامه في معالجة بيانات الكومبيوتر بيديه، وأضاف كيربي أن هذا الفيلم كان فرصة ذهبية للعالم أندركوفلر، ليثبت لعامة الجمهور والممولين المحتملين أن تقنية الإشارات في الفيلم يمكن أن تعمل وتظهر في الواقع وتصبح بديهية للمستخدمين. فقد تعامل أندركوفلر مع هذا الفيلم السينمائي بوصفه نموذجا عمليا فعليا لجعل تقنية الإشارات في الفيلم تبدو حقيقية، كما لو كانت مشروعا بحثيا يدخل ضمن مشاريع البحث والتطوير.

وكان وراء فيلم «الحديقة الجوراسية» للمخرج ستيفن سبيلبيرغ عام 1993، كل من عالم الحفريات الأميركي الشهير، جاك هورنر، بجامعة مونتانا الأميركية، ورون روجي، فني معمل، فكان على صناع هذا الفيلم، تصميم مكانين متميزين للبحوث، موقع لحفر الحفريات، ومختبر للبيولوجيا الجزيئية، فكان العالم هورنر في متناول صناع الفيلم دائما، للتأكد من أن الموقع البحثي يتفق مع خبراته، وأشار إلى لمسات صغيرة مهمة لجعل الموقع يبدو أصليا، مثل وجود رقائق القصدير لتغليف الحفريات الدقيقة، كما تم الاعتماد على فني معمل في إعداد معمل البيولوجيا الجزيئية، بحيث يتضمن المعمل قوارير وأنابيب المختبرات، والكواشف المستعملة لأغراض التشخيص في المختبر، ومذكرات المختبرات التفسيرية.

وعن الهدف من تأليف كتاب «معاطف المختبر»، قال كيربي في حواره لـ«الشرق الأوسط»، إنه أراد أن يوضح لعامة الجمهور أن دمج العلم في الأفلام عملية معقدة بشكل لا يصدق، وأن يعرف الجمهور أن الإبداع العلمي يمكن أن يتحول إلى نشاط ترفيهي ممتع ومشوق، وأن دور الخبراء العلميين أوسع بكثير من مجرد مجموعة من الحقائق العلمية في الكتب الدراسية، وذلك بالكثير من الأمثلة على أهمية الاستشارات العلمية في تحسين طائفة واسعة من الأفلام، وتسهيل مزيد من التفاعلات بين العلماء وقطاع الترفيه. وأضاف كيربي أن هذا الكتاب فرصة لتحفيز المجتمع العلمي على التفكير بشكل نقدي أكثر حول مفهوم الدقة العلمية في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، وأن تكون الحقائق العلمية نقطة انطلاق لصانعي الأفلام، وكيف يمكن للمستشارين العلميين أن يساعدوا صناع الأفلام على إثارة الرأي العام حول إمكانات وآفاق البحوث العلمية. ولعل السؤال المطروح، كيف يمكن لهوليوود أن تجد المستشارين والخبراء العلميين المناسبين لأفلام الخيال العلمي المزمع إنتاجها؟

والإجابة من خلال الاتصال ببرنامج لتبادل الترفيه والعلوم (The Science and Entertainment Exchange)، تابع للأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم، وموقعه الإلكتروني (www.scienceandentertai nmentexchange.org)، حيث يهدف إلى تعزيز التعاون الخلاق والربط بين الخبراء العاملين في قطاع الترفيه مع مستشارين وخبراء من كبار العلماء والمهندسين من جميع التخصصات العلمية، والوصول السريع والسهل لهؤلاء العلماء، لتقديم رسائل علمية تعليمية قوية ودقيقة عن العلوم، للمساعدة في إثراء الفنون البصرية والسردية الإبداعية باهتمام وتفاصيل مثيرة للدهشة تحقق الواقعية والمصداقية العلمية لأقصى حد ممكن، وذلك من خلال استخدام وسائل الإعلام الترفيهية الشعبية كالأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية، ومن دون إضعاف لقيمة الترفيه في هذه الأفلام والبرامج، الذي يجعلها أكثر تشويقا وقابلية للاستمرار من الناحية التجارية، والوصول في نهاية المطاف لمزيد من التقدير للعلم والعلماء لدى جمهور واسع.

وجدير بالذكر أن لأفلام الخيال العلمي السينمائية والمسلسلات والبرامج التلفزيونية تأثيرا على فهم الطلبة وعامة الجمهور للعلوم، والتأثير على أفكارهم حول الظواهر والحقائق العلمية. فقد وجد كل من الباحثين دوبيك وموشير وبوس عام 1988، أن استخدام الأفلام العلمية وأفلام الخيال العلمي في تدريس مواضيع العلوم، يؤدي لإثارة حماس الطلبة نحو تعلم العلوم، بدرجة أفضل من طرق التدريس التقليدية. وتوصلت دراسة «جمعية تقدم التربية» الأميركية عام 1994، إلى أن لأفلام وبرامج الخيال العلمي تأثيرا قويا وفعالا على تشجيع الطلبة نحو حب العلوم وإثارة حب الاستطلاع لديهم، واكتسابهم للكثير من المفاهيم والمصطلحات العلمية، وفي تحسين اتجاهات الطلبة نحو أهمية العلوم وتقدير جهود العلماء. ويقول الباحث كافانوف في دراسة بعنوان «الخيال العلمي والتربية العلمية» عام 2002، إن مشاهدة أفلام الخيال العلمي تسهم في تعلم العلوم بطرق مختلفة، من بينها أنها تقدم تصورات مباشرة للمفاهيم العلمية الصعبة، كما تسهم في تسهيل تعلمها، وتساعد في نمو الفهم العام لعمليات العلم، وتظهر بوضوح العلاقات المتبادلة بين فروع العلم المختلفة.

فعلى سبيل المثال، فيلم «الحديقة الجوراسية» (Jurassic Park) عام 1993، عن رواية بنفس العنوان عام 1990 لكاتب الخيال العلمي الأميركي الراحل مايكل كرايتون، يتناول الفيلم موضوع إعادة الديناصورات إلى الحياة عن طريق الهندسة الوراثية، كما يقدم بعض الأفكار العلمية حول قضايا التقدم العلمي والالتزام بأخلاقيات العلم والتوظيف الصحيح للعلم ومنجزاته، كما أن مسلسلات الخيال العلمي التلفزيونية الشهيرة مثل «حروب النجوم» (Star Wars)، و«رحلة النجوم» (Star Trek)، تقدم للمشاهدين الكثير من المفاهيم العلمية والفيزيائية المهمة، بصورة مبسطة تساعد على فهمها وتعلمها، كما أنها تحببهم في علوم الفلك والفضاء والطيران.