«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي الدولي- 5

لقطة أولى: كيف تقيم مهرجانا ناجحا

مشهد من «زهور الحرب»
TT

مضت تلك الأيام التي كان فيها المهرجان الناجح هو المهرجان الذي يعرض أفلاما تبغي عكس ما يدور العالم حوله. أو ذلك الذي يجمع على شاشته أفضل المعالجات الفنية الممكنة. مضت تلك الفترات التي كان من الكافي والوافي أن يقوم الناقد بمشاهدة أفلام المهرجان والكتابة عليها وحدها، أو أن يقوم السينمائيون بمعاينة أفلام بعضهم البعض ودخولهم في مناقشات ملهمة حول الأسلوب والمعالجات الفنية والميزانسين الذي استخدم هنا أو لم يستخدم هناك… كل ذلك لم يعد يرد وحده بل محيطه الشامل بات بنفس الأهمية.

والمحيط الشامل هو السوق واللقاءات التي تعقد في المهرجان وبسببه.

في برلين سوق زاخر تتمنى، لو كنت سينمائيا عربيا، أن تحضره ولو لم يكن لديك أي شأن آخر يربطك بالمهرجان. على طاولات المقاهي، وهي كثيرة، يترامى الناس يبحثون مشاريعهم. الكل يبحث عن تمويل، وكل تمويل يبحث عن مشاريع. وبين هذه الطاولات هناك أخرى يشغلها ممثلو مهرجانات يحاولون الاستفادة من الأجواء العامة التي يعيشون فيها لإنجاح مهرجاناتهم. يبحثون عمن يفيد إعلاميا أو عمن تراه يشترك في لجنة تحكيم، أو عن الفيلم الأمثل لجلبه.

برلين خلية عمل دائم كما «كان» الفرنسي و«تورونتو» الكندي و«سندانس» الأميركي. السوق يغير وجهات كثيرة ويمنح هويات مختلفة. وإذا ما كان مهرجان فينيسيا لا يزال بلا سوق، فإن ذلك كاد يتغير في العام الماضي لولا إيقاف العمل على حفر منشآت بعدما اصطدم كل ذلك بعراقيل بناء وتمويل.

بالتالي، فإن المهرجان الذي يريد أن يكون ناجحا على مستوى إقليمي أو عالمي عليه أن يمنح المنتج أو الموزع أو الفنان عموما التبرير الذي من أجله عليه أن يشترك. والأمور هي أبعد من مجرد «عزيمة» أو «دعوة» لحضور المهرجان. تستطيع أن تدعو هذا العام عشرين سينمائيا وفي العام المقبل عشرين سينمائيا آخرين، لكن ماذا بعد ذلك؟ ما هي الفائدة؟

هذا التبرير إن لم يكن سوقا نشطة فعلى الأقل توفير مبدأ اللقاءات الجانبية وتأمين عناصرها: كثرة المدعوين الممثلين للأسواق العالمية وللمشترين والموزعين وأصحاب المشاريع. إن قسما كبيرا من هذا بات مؤمّنا في مهرجاني دبي وأبوظبي، لكنه ليس مكتملا. المسألة تحتاج بدورها إلى تبرير أهم: سوق عربية تقبل على شراء الأفلام وتشكل حجما متميزا من الإقبال على الإنتاجات غير الأميركية. بعدم وجود هذا السوق فإن المهرجان العربي سيبقى أعلى مستوى من الواقع. طموح لا بد أن يستمر لكن بذخيرة مختلفة.

فيلم اليوم

* زهور الحرب.. بلا رائحة

* لم أستطع استبعاد صورة المخرج البريطاني مايك لي، رئيس لجنة التحكيم في مهرجان برلين السينمائي هذا العام، وهو يهز رأسه آسفا مشهدا وراء مشهد. إنه شيء يشير بسوء حظ المخرج الصيني زانغ ييمو، إذ يشارك في مسابقة هذا المهرجان تحت عباءة مايك لي وخصوصا إذا ما كان الصيني يتوقع من البريطاني أن يمنحه جائزة.

المفارقة مثيرة لأن مايك لي مجبول على السينما التي تخاطب مشاهديها بوعي وواقعية، من ناحية وبأقل التكاليف من ناحية أخرى. أما زانغ ييمو فهو مستعد لأن ينتقل مما كان يجب أن يكون دراما واقعية إلى أقصى الخيال ثم يعود من دون أن يشعر بأنه تغرب على الإطلاق.

بعد أن نشأ وزميله تشن كايغي في أحضان السينما المنتقدة للنظام الصيني في الثمانينات، وتعرضا إلى المنع حينا وإلى التهديد بالسجن حينا آخر، قرر ييمو ترك السلاح والمضي في سينما بلا متاعب. دخل سينما الفانتازيا القتالية: سيوف وخناجر وسهام وطيران في الفضاء وحروب قرون ما قبل السلطات الشيوعية و… من دون إسقاطات.

«زهور الحرب» هو فيلم درامي مأخوذ عن كتاب مأخوذ بدوره عن حكايات يقال إنها حقيقية، وربما كانت. نحن في مدينة نانكينغ سنة 1937 التي غزتها القوات اليابانية واحتلتها. هناك أميركي مغامر (كرستيان بايل) يعيش هناك ويدعي أنه قسيس وكل همه السطو على مال الكنيسة التي تقع الحرب حولها. لا يجد المال لكنه يجد الشراب وفوق ذلك يجد نفسه في وسط وضع لم يكن يحسبه: الدير فيه ثلاث عشرة فتاة من الطالبات المحافظات وبعد قليل هناك اثنتا عشرة فتاة من نساء الليل اللواتي يهربن من جحيم المعارك ويدخلن الدير للاحتماء به. طبعا لا يريد الوصول إلى الفتيات المتدينات لكنه لا يمانع الاختلاط مع بعض نساء المتعة. هذا لا يقع، لأن الأميركي يفيق على وقع الجنود اليابانيين وهم يقتحمون الدير. نساء الليل يحسن الاختباء تحت الأرض ونساء الدير يركضن في كل اتجاه محاولات الهرب من الجنود الذين عزموا على النيل منهن. هنا يصرخ الرجل: «أنتم أناس شرفاء فتصرفوا كشرفاء»، لكن ذلك الصوت الشجاع يمضي مثل طلقة في الهواء. الذي ينقذ الموقف (بعد هرج ومرج شديدين) هو ذلك المحارب الصيني المختفي في المبني المهدم الكامن في المقابل. رصاصاته تصيب مقتلا جنديا، فيتنادى الجنود ويتركون الدير ويهرعون إلى الشارع باحثين عن «العدو». لكنه بالمرصاد ويطلق رصاصاته على أهدافها الصحيحة. أشلاء الجنود اليابانيين تتطاير في الجو، كل قليل. فقد رتب الأمر على ذلك. عرف أين يضع المتفجرات وكيف يصيبها ليفجرها. وحتى حين يحاصر ويقتل كان خطط ليربط نفسه بعبوات كبيرة تأتي على من بقي من تلك الفرقة. تتساءل وأنت ترى ذلك إذا كان كل المطلوب لدحر الاحتلال الياباني آنذاك نصف دزينة من أمثاله.

لكن الفيلم لا يتصرف كخيال جانح في طريقة توضيبه المشاهد القتالية وتنفيذها على غرار ما نشاهده من أفلام السوبر هيرو، بل إن جنوحه بعيدا عن الحقيقة يوصم كل المشاهد الأخرى. فجأة هناك وقت لإشعال مائتي شمعة لأن ذلك سيخلق جوا لمشهد الفتيات وهن يسرن في خط واحد يستعرضن ملابسهن الجديدة. فجأة هناك ضوء النهار ساطع كما لو أن الشمس مباشرة خارج البيت. كل ذلك وسواه لكي يصنع ييمو لقطة جمالية تشبه الصحون الملونة التي تباع في الدكاكين التراثية الرخيصة. والرخص اسم مناسب لشرح الكيفية التي يعامل بها المخرج اليابانيين: نعم كانوا محتلين عنيفين ونعم اغتصبوا وقتلوا ومثلوا… صحيح، لكن ما يجب أن يأخذه المخرج من كل ذلك هو الوضع المؤلم نفسه وليس الرغبة في التسلية البصرية عبره. ييمو كان عليه أن يشاهد فيلم البولندي أندريه فايدا الرائع «كاتين» حول المذبحة الروسية للضباط والعساكر اليابانيين في الحرب العالمية الثانية حين قام الجيش الستاليني (من دون سبب معلوم سوى صدور أوامر من ستالين) بتجميع حلفائهم البولنديين وتنفيذ حكم الإعدام بألوف منهم. لم يسق المخرج البولندي ذلك على سبيل الاستعراض المبهر والسينما البطولية ولا ولج العواطف المبثورة كالدموع ليبكينا على الضحايا، كما يفعل العبقري ييمو في الثلث الأخير من الفيلم، بل أمّ موضوعه بجدية وخلص منه إلى إثارة رد فعل عقلاني مدروس يعتمد قليلا على العاطفة وكثيرا على المعرفة الإنسانية.

كرستيان بايل ممثل جيد لكنه مبعثر بدوره في هذا الجهد. الشخصية المكتوبة تبدو مترجمة من تلك النمطيات التي أداها غاري كوبر وهمفري بوغارت وروبرت ميتشوم ولي مارفن من قبل: الأميركي الذي يمكن أن تشتريه في أي أزمة ولو بحجم الحرب لأنه لا يقيم وزنا للأخلاقيات والتقاليد أو المبادئ الإنسانية.. هذا بالطبع تمهيدا لتغير حاسم بموقفه ينبع عن وضع مستجد. لا الطريقة التي يؤدي بها بايل الشخصية، ولا الدور كما كتب، قادران على تعميقها قبل وبعد ذلك الانتقال من المغامر إلى الإنساني الذي يكاد يغرق الصالة دموعا وهو يحاول مساعدة الصينيات على الهرب. حتى الحوار مفبرك مع استخدام مفردات نعلم أنها لم تكن واردة كتعابير في ذلك الحين. وفي وقت لا ينفي أحد فيه أن الجيش الياباني قتل مئات الألوف (أفلام صينية سابقة ذكرت 200000 ألف ضحية، ثم أخرى قالت إن الضحايا أكثر من هذا الرقم، وهذا الفيلم يقول أنها أكثر من 300000 ضحية) لكن لأجل هؤلاء الضحايا قبل سواهم، ألم يكن الأمر يستحق فيلما جيدا وبعيدا عن استنزاف العواطف على هذا النحو؟

ميريل ستريب.. امرأة ذات وجوه

* تم يوم أمس الثلاثاء الاحتفاء بالممثلة ميريل ستريب في حفل كبير منحت فيه دبا ذهبيا خاصا عن كل أعمالها. وللمناسبة تم عرض عدد من أفلامها أحدثها هو الفيلم الجديد «امرأة حديدية» التي تؤدي فيه شخصية رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر.

في لقاء «الشرق الأوسط» معها قبل أسابيع، ذكرت الممثلة حجم التحدي الذي واجهها لكي تلعب دور امرأة تختلف معها في عدة وجوه وتلتقي وإياها في وجوه أخرى. التحدي لم يكن لصعوبة أداء الشخصية، فلا صعوبات في هذا المجال- ليس عند ستريب، بل الرغبة في تشخيص مارغريت ثاتشر بحيث إن ميريل ستريب تستطيع أن تذوب فيه. وحسب معظم الذين كتبوا عن الفيلم، الذي سينطلق تجاريا في ألمانيا بعد أيام، فإن مسز ستريب نجحت في أداء شخصية مسز ثاتشر لأبعد حد. السلبيات كانت في غياب مسائل ارتأى الفيلم عدم الاقتراب منها وتغييب بعض الأحداث التي كان عدد كبير من المشاهدين يتوقعون من العمل أن يتناولها.

لكن هذا لا يضير الممثلة ذاتها التي حشد المهرجان لها ستة أفلام أخرى جميعها ذات شخصيات مختلفة. وكلمة مختلفة في محلها ليس في نطاق اختلاف الدور، بل في اختلاف تجسيده. هي الزوجة التي تخسر قضيتها أمام المحكمة وأمام دستين هوفمان في فيلم روبرت بنتون «كرامر ضد كرامر» (1979)، وهي اليهودية البولندية التي تداهمها الحرب في فيلم ألان ج. باكولا «اختيار صوفي» (1982). كل من بنتون وباكولا من المخرجين الذين فشل النقاد العرب في الإحاطة بأعمالهم كاملة وتقديرهم على النحو الذي يستحقونه. الحال تقريبا ذاته مع المخرج مايك نيكولز الذي أخرج من بطولة ميريل ستريب فيلمين «سيلكوود» (1983) المعروض في هذا الاحتفال، و«حرقة قلب» (1986) الذي لا يقل فيه إحساسها بالشخصية التي تؤديها.

أيضا من بين ما هو معروض «خارج أفريقيا» لسيدني بولاك (1985) وفيلمها الوحيد مع الممثل كلينت إيستوود «جسور ماديسون كاونتي» (1995) ثم فيلمها «شركاء البيت الريفي» الذي كان آخر ما حققه المخرج ألفريد روبرت ألتمان (2006).

إنها حفنة من الأفلام تصلح لأن تعرض دائما. كل من لا يعرف عنها، قبل «المرأة الحديدية»، شيئا، عليه أن يشاهدها. وكان يمكن إضافة أفلام أخرى بالغة الأهمية حققتها في مسيرتها التي تحتوي على 55 فيلما حتى الآن مثل «سكون الليل» (روبرت بنتون- 1982)، «امرأة الضابط الفرنسي» (كارل رايز-1979) و«صرخة في الظلام» (فرد شيبيسي- 1988) و«نهر متوحش» لكيرتس هانسن، من بين أخرى.

في حياة ميريل ستريب أيضا فيلم «جوليا» الذي أخرجه الراحل فرد زنمان الذي قادت بطولته كل من جين فوندا وفانيسا ردغريف. الأولى عبرت قبل سنوات من هذا الفيلم عن تأييدها لإسرائيل والثانية وظفت فوزها بالأوسكار لتحيي فلسطين وتنتقد إسرائيل. يا للمفارقة. ميريل ستريب سوف لن تقترب مطلقا من موضوع شائك كهذا ولو أنها عايشت ما حدث وهي بعد شابة صغيرة تحاول أن تشق طريقها وسط الفرص المحدودة حينها. عنصرها الأساسي في الأداء هو العاطفي. نعم لعبت شخصيات كوميدية، آخرها دورها في «إنها مسألة معقدة» قبل ثلاث سنوات، لكن الأدوار العاطفية بقيت أساسا. تلك التي أدتها في «اختيار صوفي» و«سيلكوود» و«السقوط في الحب» و«حرقة قلب» و«أيرونويد» و«غرفة مارفن» و«جسور ماديسون كاونتي» من بين أخرى. حتى تمثيلها لشخصية امرأة تكن شرا ولا تتحمل تبعات ما تقوم به كما حالها في «خارج أفريقيا» أمام روبرت ردفورد كان مغلفا في الواقع بذلك الجوهر العاطفي. قد تكون امرأة صلبة لكنها تبقى محبة ومثيرة للحب أيضا.