العاصمة الهندية تراثها إسلامي يمتد لـ7 قرون

في 11 ديسمبر 1911 أصبحت دلهي عاصمة الإمبراطورية البريطانية

راشتراباتي بهاوان أسسه البريطانيون مقرا لإقامة حاكم الهند («الشرق الأوسط»)
TT

تدخل دلهي، عاصمة الهند الوطنية في العصر الحديث، عامها المائة. ويعد تاريخ دلهي، المليء بالحروب وأعمال الشغب، ومظاهر الأبهة والعظمة، تاريخا نابضا بالحياة يقدر ما هو مثير للاهتمام. وتحتفل دلهي، العاصمة السياسية والمالية والثقافية لعدة إمبراطوريات، بالذكرى المئوية لتأسيسها، بعد ظهورها من جديد لتكون عاصمة الهند الحديثة.

وتراث دلهي الملموس هو في جوهره إسلامي، وهو تراث يمتد على مدى أكثر من 7 قرون من الحكم الإسلامي في المدينة، إلى جانب بعض الأبنية والمناطق ذات الطراز البريطاني، في منطقة دلهي لوتيونز، التي يرجع تاريخها إلى الحكم البريطاني في الهند.

ورغم أن التاريخ يذكر أن بداية استيطان دلهي حدث منذ آلاف السنين، فإنه لا يوجد سجل رسمي يؤكد هذا الزعم. وتعتبر دلهي بشكل عام مدينة يقترب عمرها من 5000 سنة، كما جاء في نص ملحمة المهابهاراتا الهندية القديمة، التي تحكى عن اثنين من أبناء العم، كاورافاس ووباندافاس، اللذين خاضا حربا من أجل الحصول على مدينة إندربراثرا (دلهي القديمة). وتعود أقدم الآثار المعمارية الموجودة بالمدينة إلى فترة الإمبراطورية الماورية (عام 300 قبل الميلاد)، حيث وقعت المدينة، منذ ذلك الحين، تحت سيطرة الكثير من الحكام والسلالات، وكانت بمثابة عاصمة لعدة إمبراطوريات، مثل فترة حكم الفيديين، والأتراك والأفغان، الذين حكموا خلال الفترة من القرن 13 إلى القرن 15، ثم حكم المغول، في وقت لاحق، في القرن 16. وكانت هناك بعد المغول كونفدرالية وإمبراطورية السيخ، التي أعقبها الحكم البريطاني.

وتتوج السجلات الموجودة في دلهي، سواء أكانت في شكل كتب أم أدلة أثرية، دلهي باعتبارها المدينة التي كانت عاصمة لهذه الإمبراطورية أو تلك على مدى التاريخ الهندي، باستثناء بعض الفترات العشوائية البسيطة، مما يجعل من دلهي واحدة من أكثر المدن في العالم التي تم اختيارها كعاصمة.

والأمر الذي ينبغي فهمه هنا هو السبب الذي جعل من دلهي «العاصمة المختارة» بالنسبة للكثير من الحكام في التاريخ المسجل. وليس الجواب مخفيا بشكل كبير، حيث إنه يكمن في تضاريس المدينة ومناظرها الطبيعية. ويعد كل من نهر يامونا وسلسلة جبال «ريدج دلهي» - وهما، في الواقع، اثنان من أهم السمات الجغرافية المميزة لمدينة دلهي - السبب في أن المدينة ما زالت تتمتع بالمركز الذي تحظى به. فنهر يامونا وسلسلة جبال «ريدج»، اللذان يطلق عليهما باقتدار الآن عصب الحياة في دلهي، هما الموارد الطبيعية التي تخدم المدينة منذ زمن سحيق.

وفي حين يضمن نهر يامونا توافر الكثير من المياه اللازمة، التي لا غنى عنها لبقاء وإعالة أي استيطان، توفر سلسلة جبال الـ«ريدج»، التي تعد امتدادا لجبل أرافلي، حماية طبيعية، مما يجعل من دلهي موقعا ذا أهمية استراتيجية. وقد جعل وجود النهر على جانب، وسلسلة جبال الـ«ريدج» على جانب آخر، من دلهي عاصمة مثالية بالنسبة لأي رجل يحلم بالقهر والإخضاع والحكم.

وقد جعل الموقع المركزي والثروة دلهي عرضة للعب دور كبير في الصراعات المختلفة على مر الأزمنة، حيث لعبت دورا محوريا في التاريخ الهندي نظرا لأنها كانت دائما بمثابة البوابة التي تتحكم في الطريق بين غرب ووسط آسيا، وجنوب شرقي آسيا.

وهناك نصوص تذكر دلهي بوصفها مكونة من مجموعة من أكثر من 11 مدينة. ورغم أن هذا من الممكن جدا أن يكون صحيحا، نظرا لتاريخ دلهي الطويل كعاصمة، فإنه لا توجد سجلات رسمية يمكن الاعتماد عليها حول هذا الأمر.

وقد اكتشف المؤرخون 7 مدن قديمة في دلهي، أنشأ كلا منها حاكم مختلف، وبعضها قائم اليوم في شكل قرى فقط.

وهذه المدن القديمة هي «كويلا راي بيتولا»، و«ميهرولي»، و«ساري»، و«توكلاكباد»، و«فرزوباد»، و«شاغو»، و«شاهاشهابوناد»، وكانت دلهي الإمبراطورية البريطانية هي المدينة الثامنة والأكثر طموحا بين كل هذه المدن.

وقد جعل عدد من الحكام المسلمين دلهي، في بداية القرن الـ12، عاصمة لهم، وكان اسمها آنذاك في ذلك العهد «سلطنة دلهي» التركية في الهند، في العصور الوسطى. وقد حكم السلاطين الهند من دلهي خلال الفترة من عام 1206 إلى عام 1526، عندما تم استبدال آخر أولئك السلاطين بسلالة المغول، بدءا من منتصف القرن الـ16 وإلى منتصف القرن الـ19.

وقد دخلت الثقافة، والديانة، والعمارة الإسلامية إلى دلهي في بداية القرن الـ13. عندما أسس شمس الدين التتمش، المملوك السابق القادم من أفغانستان، مملكة تركية في دلهي، مكنت السلاطين اللاحقين من التحرك في كافة الاتجاهات، في غضون السنوات الـ100 التالية. وقد بدأ السلطان قطب الدين، سلطان دلهي، في وقت لاحق، حركة عمارة إسلامية في المدينة، حيث بشرت السلطنة بفترة نهضة ثقافية هندية. وقد خلف الانصهار الناتج بين الثقافتين «الهندية» و«الإسلامية» آثارا توفيقية دائمة في مجالات العمارة والموسيقى والأدب والدين والملابس.

ومن المفترض أن اللغة الأردية (تعني حرفيا «حشد» أو «معسكر» هي لهجات تركية مختلفة) قد ولدت خلال هذه الفترة، نتيجة لاختلاط السكان المحليين، الذين يتحدثون السنسكريتية، بالمهاجرين، الذين يتحدثون الفارسية، والتركية، والعربية، في ظل دولة الحكام المسلمين.

وتعد سلطنة دلهي الإمبراطورية الهندية - الإسلامية الوحيدة التي تم فيها تتويج واحدة من أوائل الحاكمات المسلمات في الهند، وهي السلطانة راضية (1236 - 1240).

وكانت السلطنة في تقلب مستمر، حيث صعدت وسقطت في أثنائها 5 سلالات حاكمة، وهي سلالة الرقيق (1206 - 1290)، وسلالة خالجي (1290 - 1320)، وسلالة توغيلاك (1320 - 1413)، وسلالة سيد (1414 - 1451)، وسلالة لودي (1451 – 1526). وربما كانت أكبر مساهمة قدمتها السلطنة هي نجاحها المؤقت في عزل شبه القارة من الدمار المحتمل للغزو المغولي، القادم من آسيا الوسطى، في القرن الثالث عشر.

ومع ذلك، فقد غزاها المغول، بقيادة الإمبراطور المغولي التركي، بابر، في عام 1526. عندما هزم إبراهيم لودي، آخر ملوك سلاطين دلهي. وكلمة «المغول» هي النسخة الفارسية من كلمة «المنغول». وكان بابر، وهمايون، وأكبر، وجهانجير، وشاه جهان، وأورنجزيب هم الحكام البارزون في إمبراطورية المغول.

وقد نمت إمبراطورية المغول من أحفاد الإمبراطورية المغولية الذين كانوا يعيشون في تركستان في القرن الـ15. وقد أصبحوا مسلمين واستوعبوا ثقافة الشرق الأوسط، في نفس الوقت الذي حافظوا فيه على عناصر جذورهم في الشرق الأقصى، كما احتفظوا أيضا بالمكر والمهارة العسكرية الكبيرة التي تميز بها أسلافهم من المغول، وكانوا من بين أوائل الزعماء العسكريين الغربيين الذين استخدموا البنادق. وكانت الإمبراطورية المغولية حضارة متطورة، تقوم على التسامح الديني. وكانت مزيجا من الثقافة الفارسية والهندية.

وتقف آثار دلهي المختلفة شاهدا على هذا العصر الغابر الذي كان مثيرا للاهتمام. حيث يمثل كل أثر من هذه الآثار، من القلعة الحمراء إلى «قطب مينار» إلى المقابر المختلفة في المدينة، فترة منفصلة في تاريخ دلهي. وتغطي المعالم التاريخية في منطقة نيودلهي، معظم الآثار التي بنيت في عهد الانتداب البريطاني مثل راشتابتي بهافان (بيت الرئيس).

ومع ذلك، هناك شيء واحد مشترك بين جميع آثار دلهي، وهو تميزها المعماري، حيث لدى كل أثر من هذه الآثار، سواء أكان القلعة الحمراء التي بناها شاه جهان أم مبنى البرلمان الذي صممه إدوين لوتيونز، وجه من أوجه الجمال المعماري الذي يجعل المرء مفتونا به، ولكن بعد كل هذا، لا يمكن وصف روعة آثار دلهي بشكل كامل، وسيتوجب على المرء زيارة هذه الآثار بنفسه لكي يتمكن من تقديرها بحق.

وتعد «قطب مينار» الأعجوبة المعمارية للحكم الإسلامي في دلهي، وهي مئذنة أعلى من أي مئذنة أخرى في العالم، حيث يصل ارتفاعها إلى نحو 230 قدما. وقد شيدت على أنها أحد أبراج النصر، للاحتفال بانتصار الحاكم الأفغاني، محمد غوري، على الملك الهندوسي، بريثفيراج شوهان، في عام 1192 ميلادية، وذلك من خلال نائبه، قطب الدين أيبك، الذي أصبح سلطان دلهي الأول فيما بعد. وتعد «قطب مينار» أطول مئذنة مبنية بالطوب، وهي مستوحاة من مئذنة جام في أفغانستان، وهي أحد الأمثلة الهامة على فن العمارة الأفغانية في وقت مبكر، والذي تطور لاحقا إلى العمارة الهندية - الإسلامية. وتتكون «قطب مينار» من 5 طوابق متميزة و379 درجة. وقد تم تقسيم المئذنة باستخدام عدة عصابات زخرفية مكتوب عليها آيات قرآنية، والشرفات التي تدعمها المقرنصات الإسلامية الزخرفية المميزة (متدليات).

وتعد القلعة الحمراء في دلهي نصبا تذكاريا ضخما بناه الإمبراطور المغولي، شاه جهان. وقد استغرق الأمر ما يقرب من 10 سنوات لإكمال القلعة الحمراء في دلهي، والتي بدأ العمل في إنشائها في عام 1638، وهي تقع على ضفة نهر يامونا، وقد شيدت خلال ذروة ازدهار الإمبراطورية المغولية. وكان من المفترض أن تكون القلعة الحمراء حصن عاصمة شاه جهان الجديدة في دلهي، شاهاشهابوناد. وتعتبر القلعة الحمراء اليوم بمثابة المكان الذي يلقي فيه رئيس الوزراء خطابه في يوم استقلال البلاد.

ويعد مسجد جاما واحدا من أكبر المساجد في الهند، والمعروف أيضا باسم «مسجد جهان نوما» (المرئي للعالم). وهو يقع بالقرب من القلعة الحمراء في دلهي، ويعد واحدا من المعالم الأثرية الأخيرة التي بناها الإمبراطور المغولي شاه جهان. وقد تم تصميم مسجد جاما في دلهي ليكون المسجد الأساسي لشاه جهان، وتم بناؤه من الحجر الرملي الأحمر، مع استخدام الرخام الأبيض بشكل مكثف. وقد تم تطعيم الديكورات الداخلية للمسجد بالخطوط السوداء. واستغرق الأمر 6 سنوات لإنجاز هذا الصرح البسيط والأنيق في نفس الوقت. وتزين المآذن النحيفة - واحدة على كل جانب - رواق مسجد جاما، التي يصل ارتفاع كل منها نحو 130 قدما. ويجد المرء نفسه، عندما يخطو إلى داخل المسجد، في فناء واسع مثل ساحات الملاعب.

ومن ضمن الكنوز الأكثر قيمة في المسجد الجامع في دلهي شعرة من لحية النبي محمد، والحذاء الذي كان يستخدمه، ومظلة شاهد قبره، وأثر قدمه على الحجر، وأجزاء من القرآن الكريم مأخوذة من المصحف الأصلي.

ورغم أن دلهي مغلفة في قرون من التاريخ، فإن الإمبراطورية البريطانية هي التي أعطت للمدينة – المسماة أيضا باسم دلهي لوتيونز – نيودلهي، عاصمتها ومركز قوتها في العصر الحديث.

وقد احتلت دلهي مكانه جديدة في التاريخ في 11 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1911، حيث أصبحت مرة أخرى عاصمة لإحدى الإمبراطوريات، وهي الإمبراطورية البريطانية. وقد تم إعلانها رسميا عاصمة إمبراطورية الهند في محكمة دلهي، التي عقدت للاحتفال بذكرى تتويج الملك جورج الخامس. وكان هذا الاحتفال، الذي حضره نبلاء الهند مرتدين ريش الطاووس وغيره من الواردات الاجتماعية والسياسية، يمثل قمة مواكب السلطة والأبهة... والإكبار.

وقد قام اثنان من أبرز المهندسين المعماريين البريطانيين في القرن الـ20، إدوين لوتيونز، وهربرت بيكر، بتصميم دلهي. وتم افتتاحها رسميا في عام 1931 عندما تم الانتهاء من المباني الثلاثة - قصر نائب الملك، ومبنى الأمانة، ومبنى مجلس النواب. وستصبح هذه المباني، بعد 16 عاما من ذلك التاريخ، من أبرز رموز الهند المستقلة، بعدما أعيد تسميتها باسم راشتابتي بهافان، وكتلة الجنوب والشمال، والبرلمان الهندي، وستشكل أحد أكثر مراكز المدينة أناقة في ذلك الوقت. وقد أكملت بوابة الهند، والتي صممها لوتيونز، باقي مظاهر العظمة، والتي تحاذيها «منطقة بيوت لوتيونز»، وهو مصطلح يستخدم في وصف المنطقة التي تبلغ مساحتها 2800 هكتار، في وسط دلهي، التي تضم منازل مترامية الأطراف من طابق واحد مخصصة لمسؤولي الحكومة البريطانية ومكاتبهم الإدارية. وقد استغرق الأمر ما يقرب من 20 عاما و15 مليون جنيه لبناء نيودلهي، عاصمة الهند البريطانية آنذاك.

ويتألف قصر راشتابتي بهافان في دلهي، الذي بني في الأساس كمقر لنائب الملك وحاكم الهند، من 4 طوابق و340 غرفة. ويمتد هذا القصر، المعروف الآن باسم بيت الرئيس بنيودلهي، على مساحة تبلغ نحو 200 ألف قدم مربع. وقد استغرق الأمر 18 عاما للانتهاء من تشييده، وقد أصبحت الهند مستقلة بعد انتهاء هذه الأعوام الـ18، وهو الآن المقر الرسمي للرئيس الهندي.

وقد قال أول رئيس وزراء للهند، جواهر لال نهرو، ذات مرة: «تعد دلهي رمزا للهند القديمة والجديدة. فحتى الحجارة الموجودة هنا تهمس في آذاننا بما جرى في العصور السحيقة، بينما يمتلئ الهواء الذي نتنفسه بغبار وروائح الماضي، مثلما هو مليء بالرياح الطازجة والثاقبة للوقت الحاضر».