تاكاشي موراكامي.. «الأنا» اليابانية في قلب قطر

احتفاء بأربعين سنة من العلاقات بين البلدين

موراكامي بين شخصيتيه «كاكاي» و«كيكي»
TT

بمجرد أن تلج مدخل «الرواق»، وهو الغاليري الذي يبعد أمتارا عن «متحف الفن الإسلامي» في الدوحة، يخلبك مجسم ضخم بارتفاع ستة أمتار لرجل آسيوي الملامح يتربع على بساط مزركش بالزهور، يضع كفه اليسرى على ركبته ويمد الكف الأخرى مبسوطة باتجاهك متكئة على ركبته اليسرى. اقترابك من الرجل وتمعنك في نظرات عينيه وتعابير وجهه وبعض الكدمات الزرقاء على جسده، تجعلك تظن فعليا أنه إنسي حقيقي عملاق، قرر الجلوس هنا.

لا بد أن تدور حول المجسم الضخم تكرارا لتتمعن الدقة والإتقان الشديدين اللذين أنجز بفضلهما هذا العمل الفني، بقصد إثارة الدهشة عند زائر معرض الفنان الياباني تاكاشي موراكامي الذي تستضيفه الدوحة حتى الرابع والعشرين من يونيو (حزيران) المقبل. معرض بهيج تطغى عليه الروح الطفولية، وتشكيلات الزهور الربيعية بألوانها الفاقعة، كما أن محتوياته أشبه بقطع صممها الفنان لتكون جزءا من مدينة ترفيهية للأولاد على الطريقة الأميركية، لكن نبضها وروحها وشخصياتها كلها يابانية. كل شيء يصلح لتصنيعه وتحويله عند موراكامي إلى مادة ترفيهية، بما في ذلك مجسم معدني بملامح طريفة لبوذا المنتصب في المعرض على قاعدة كبيرة مضاءة تجعل من الصعب تصور مكانته الروحانية في شرق آسيا. في الصالة الشاسعة التي نجد فيها بوذا نرى خيمة كبيرة مثل خيام السيرك بداخلها يتمدد المتفرج على فرش وثيرة مصنوعة من زهور موراكامي المحشوة التي تسمح بالاسترخاء بينما تعرض شاشة مقاطع من الأفلام القصيرة المتحركة لهذا الفنان. موراكامي، كما يكتشف الزائر، يجمع بين الرسم وصناعة المجسمات، وابتكار الأفلام. وبالمختصر هو بعد أن أسس شركته الإنتاجية الخاصة بات مؤسسة فنية متعددة الإنجازات، لها فروع كثيرة ومنتوجات فنية متباينة، ومن المعروف أن تصاميم لوي فيتون كانت قد استفادت مؤخرا من ابتكارات موراكامي لتزيين الحقائب إلى جانب منتوجات أخرى، تحمل هذا الاسم الشهير.

تحت عنوان «الذات» أو «الإيغو» وعلى مساحة 2300 متر مربع، سبعون قطعة فنية تعرض حاليا في الرواق لموراكامي، آتية من أنحاء مختلفة في العالم، وبعضها نفذ خصيصا للمعرض. وهو الأول لهذا الفنان الياباني في العالم العربي بعد أن لقي معرضاه الأخيران في «متحف الفن المعاصر» في لوس أنجليس، وفي «قصر فرساي» في فرنسا، صدى واسعا.

موراكامي الولوع بالحداثة، حتى الثمالة، وبالتراث الياباني، حد التخصص ونيل دكتوراه في أسراره وخباياه، نجح في توليف معرض قائم على فكرة الترفيه وفن الرسوم المتحركة المعجونة بشخصيات طالعة من قلب حضارته وتاريخه.

أن يسمي معرضه «الذات» أو «الأنا» لا يعني أن المعروضات تدور حول شخص موراكامي، وإن كان بعضها يبدو كذلك، فالمزاج الآسيوي ليس فرديا، وحين يقرر موراكامي استبطان «الأنا» تبدو أناه يابانية، شعبية، تعود إلى ذاكرته الجماعية بما فيها من ألوان ومفاهيم وحتى أساطير نائمة.

إضافة إلى الشخصيات التي ابتكرها موراكامي، وأقام لها مجسمات ظريفة وجميلة في هذا المعرض، عمد إلى تنفيذ لوحة بطول 800 متر، تحمل اسم «آرهات» هي من وحي الزلزال المدمر الذي شهدته اليابان في مارس (آذار) عام 2011 وراح ضحيته 20 ألف شخص. وعلى طريقة الرهبان اليابانيين الذي يرسمون حكاياتهم وقصصهم، شارك عشرات الفنانين في تنفيذ هذا العمل الضخم، حيث تختلط شخصيات شيطانية بأخرى مؤنسنة، كما تظهر حيوانات غريبة، بتفاصيل عجائبية، ليرتسم عالم غير اعتيادي، شرير لكنه مرح وفرح بألوانه الزاهية التي تكسر حدة الجنون القابع فيها.

في إحدى القاعات نلتقي بالشخصيتين «كاكاي» و«كيكي»، إحداهما تمثل الخير، والأخرى الشر الذي لا ينذر بخطر كبير. وهما شخصيتان ابتكرهما واستخدمهما موراكامي في لوحات تبدو أقرب إلى ورق الهدايا، كما نجدهما في أحد أفلامه القصيرة. شخصيات هذا الفنان الياباني التي ابتكرها كثيرة، أطرفها ربما كلبه «بوم» الذي يجسد نفسه معه في إحدى صالات العرض على طريقة أبطال الرسوم المتحركة، المعرض حداثي جدا صناعي ترفيهي، لكن اليابان حاضرة فيه بحيواناتها، وروبوتاتها كما شهوتها العارمة لمعانقة المستقبل دون أن تتخلى عن الماضي. وربما لهذا فإن بطلة المعرض هي الزهرة التي صنع منها موراكامي عشرات الأشكال بألوان جذابة، وحاكها في كرات، ومساند، وبروشات لتزيين الصدور، كما جعل منها لوحات وستائر وسجادا. اليابانيون يعشقون الطبيعة ويفخرون بأنهم ينسجمون معها، وربما هذا ما أراد أن يقوله موراكامي حتى وهو يرسم لوحات فيها آلاف الجماجم الصغيرة الملونة بألوان الزهور الخصبة.

يقول موراكامي إنه متأثر برامبرنت وفرنسيس بيكون، وغربيين آخرين، لكنه في الوقت نفسه، يعتبر أن العمل الفردي الصغير لم يكن ليساعده على إنتاج كبير، متعدد وغزير، وأن تأسيس شركة لها فروع في العالم ويعمل بها عشرات المساعدين ساعده على تحقيق الكثير مما يحلم به في وقت قياسي.

ماسيميلينو جيوني، مدير المعرض، شرح لنا «أن موراكامي يخطط ويرسم، فيما ينفذ فريقه العمل تحت إشرافه. هو رجل له مكاتب واستوديوهات عدة بين أميركا وطوكيو، لكن لا منزل له ولا مستقر، ينام حيث توجد ورشة يعمل فيها ويكدح». وعن الطريقة التي يتم بها هذا العمل الجماعي يشرح جيوني «أن قسما مهما من الرسم والتخطيط يتم بواسطة الكومبيوتر، حيث يتم تحديد الشكل النهائي للعمل وألوانه قبل أن تدرسه المجموعة وتعطي رأيها فيه، ويتم تعديله تحت إشراف موراكامي، ومن ثم المباشرة بتنفيذه».

الإبداع المؤسساتي الجماعي، هو سر موراكامي إذن، أوليست أي شركة سيارات يابانية مثلا هي خلية عائلية، يتعامل فيها لأفراد كما لو كانوا في بيت واحد؟ ولماذا لا تنتج الفن الروح العائلية أيضا؟

يعتبر هذا المعرض الذي صرف عليه بسخاء فاتحة لمجموعة أنشطة قطرية - يابانية تستمر على مدار العام احتفاء بأربعين سنة من العلاقات اليابانية - القطرية. وعلى لائحة البرنامج أنشطة فنية وثقافية في البلدين، تتضمن أيضا التعريف بالسينما والأطعمة واللباس، والرقص والتقاليد.

وإلى ذلك الحين سيبقى مجسم الفنان الياباني العملاق منتصبا على مدخل الرواق مرحبا بزواره الصغار قبل الكبار، فموراكامي لا يخفي تمسكه بروحه الطفولية وحرصه على جذب الصغار والتأثير عليهم، فهم فنانو الغد وعليهم يعول موراكامي في غالبية أعماله.