أسبوع لندن لخريف وشتاء 2012.. إيقاع سريع وثقة عالية

لم يعد الحلقة الأضعف وأصبح صناعة تدر المليارات على الاقتصاد البريطاني

TT

إنه عام لندن بلا منازع. ففيه ستحتضن الألعاب الأوليمبية، وتحتفل بمرور 60 عاما على تربع الملكة إليزابيث الثانية على العرش البريطاني، وغني عن القول أن الآمال معقودة على المناسبتين للرفع من معنويات الشعب البريطاني من جهة وتحريك اقتصاده من جهة ثانية. لكن الكلام عن الاقتصاد لا بد وأن يجرنا للحديث عن أسبوع لندن للموضة الذي انطلق أمس الجمعة واعدا بما لا يقل عن 59 عرضا. فهو الذي يدر على الاقتصاد البريطاني ما لا يقل عن 21 مليار جنيه استرليني في العام حسب تقديرات المنظمة المسؤولة عن تنظيمه، أو على الأصح رئيسه التنفيذي ورجل الأعمال هارولد تيلمان. فهذا الأخير هو الذي جذب الأنظار إلى أهمية الموضة عموما والأسبوع خصوصا، كصناعة قائمة بحد ذاتها حين قام بدراسة شاملة منذ سنتين تقريبا، بينت أن بريطانيا تجني هذا المبلغ من وراء هذه الصناعة في كل موسم عدا عن تعزيزها سمعة البلد في الخارج كموطن الإبداع والفنون والثقافة. الحكومة البريطانية هي الأخرى فهمت هذه الأهمية، فعمدة لندن، بوريس جونسون، لا يتوقف عن التغزل بها كلما سنحت له الفرصة، ومن تصريحاته أنه أصبح يدرك أنها لا تعني «أناسا جميلين وأزياء أنيقة، بل هي صناعة مؤثرة». وزير الثقافة، جيريمي هانت، أيضا أكد هذه الحقيقة صباح يوم أمس لدى حضوره افتتاح الأسبوع، قائلا إنها صناعة «مهمة للغاية، ومنظمة الموضة بلندن تقدرها بـ21 مليار جنيه استرليني، وهو ما يوازي 1.7 في المائة من إجمال الناتج المحلي». بعبارة أخرى فهي تدر ضعف ما تدره الصناعات الكيماوية على البلاد أو حتى صناعة السيارات حسب قول هارولد تيلمان. هذه الأهمية الاقتصادية أصبحت من النقاط التي يأخذها المصممون بعين الاعتبار وتكبح جماحهم كلما سولت لهم أنفسهم الشطح بخيالهم بعيدا عن الواقع. فقد تعلموا الدرس وباتوا يفهمون أن الإبداع وحده لا يكفي إذا لم يكن مترافقا مع استراتيجية تسويق بعيدة النظر. لكن هذا الدرس لم يأت من فراغ أو من «بنات أفكارهم»، فمنظمة الموضة البريطانية تعمل منذ سنوات على دعمهم وتثقيفهم في هذا المجال، إلى جانب خلقها برامج لمساعدتهم حتى ينطلقوا إلى العالمية، مثل برنامج «نيو جين» (الجيل الجديد) الذي يدعمه السير فيليب غرين، صاحب محلات «توب شوب». هذا الأخير أعلن أمس أنه جدد دعمه للبرنامج لعشر سنوات أخرى. أمر لن يثلج صدور الكثير من المصممين الشباب فحسب، بل كل العاملين في هذا المجال، خصوصا أن الفكرة حاليا هي تطوير هذه الصناعة ككل بما في ذلك خلق «أنامل ناعمة» ومحترفة تجعل كل ما يخرج من أناملها يحمل توقيع «صنع في بريطانيا».

من البديهي أن ينعكس هذا الطموح والحماس على الأجواء في «سومرست هاوس» المقر الرئيسي للأسبوع منذ بضع سنوات. فقد كانت مفعمة بحيوية وإيقاع لم يعرفه الأسبوع منذ احتفاله بمرور 25 سنة على تأسيسه في عام 2009. وهي المناسبة التي مهدت الطريق لعودة داري «برينغل» و«بيربيري» إلى أحضانها كذلك ماثيو ويليامسون وغيرهم، علما أننا هذا الأسبوع سنشهد أيضا مشاركة ستيلا ماكارتني وماركة «سي كيو باي ماكوين» لأول مرة كذلك «بيلستاف» إلى جانب الكبار من أمثال بول سميث، فيفيان ويستوود وغيرهما. ستيلا ماكارتني التي يترقب الكل عرضها اليوم على الساعة الثامنة مساءا، تعرض منذ عشر سنوات في باريس، لكنها قررت أن تقدم عرضا خاصا، قد يكون يتيما، ليتزامن مع الألعاب الأوليمبية التي تحتضنها العاصمة البريطانية لا سيما أنها هي التي صممت أزياء لاعبيها. ويبدو أن عدوى الألعاب الأوليمبية وصلت إلى الأسبوع منذ العرض الأول، بالنظر إلى إيقاعه السريع.

انطلق الأسبوع على الساعة التاسعة صباحا، لكن على غير العادة لم يكن بول كوستيلو من افتتحه، إذ حل محله الثنائي أنتوني أند أليسون، اللذين احتفلا بـ25 عاما على شراكتهما بأول عرض لهم على منصة «سومرست هاوس» بتشكيلة تلعب على الخدع البصرية والكثير من الألوان. عنوان العرض كان: «عارضات يمشين في فساتين في كل المناسبات» وبالفعل كانت الفساتين البطل بلا منازع، إلى جانب الشقاوة البريطانية الملموسة في بعض الرسومات والتفاصيل. الثنائي المعروف بتصاميمه الصوفية في العادة، جرب هذه المرة الحرير كما تلاعب على مزج بعض التناقضات، مثلا القديم بالعصري، حيث اكتسب التويد والبروكار حداثة وحيوية بفضل الرسومات الديجيتال التي أدخلاها وقالا إنهما كانا يتمنيا استعمالها منذ أن كانا طالبين في معهد «سانت مارتنز للتصميم» ولم يتمكنا من ذلك من قبل.

المصممة كوري نيلسون في المقابل، لم تكتف بالفساتين، وقدمت أيضا قطعا منفصلة مثل التنورات والمعاطف الطويلة والقمصان وغيرها، معظمها بألوان داكنة مثل الأسود والرمادي مع قليل من الأبيض والأحمر. لكن الفرق بينها وبين الثنائي «أنتوني أند أليسون» لم يقتصر على الألوان أو تنوع القطع بل أيضا على التصميم نفسه. ففيما ركز الثنائي على التصاميم المنسدلة والقصيرة إلى حد كبير، ركزت كوري على التصاميم المعمارية والمنحوتة إلى حد كبير وبأطوال متنوعة. وإذا عرف السبب بطل العجب، فوالدها نحات معروف وبحكم أن كل بنت بأبيها معجبة، كان من الطبيعي أن تتأثر به ولو من بعيد. ومع ذلك، لا يمكن القول إنه كان المؤثر الوحيد على أسلوبها، فبعد تخرجها في معهد «سانت مارتنز للتصميم والفنون» عملت مع فيفيان ويستوود لست سنوات قبل أن تبدأ ماركتها الخاصة، وهو ما جاء واضحا في كميات القماش المستعملة في الطيات وكذلك في الإيحاءات التاريخية. بعد العرض كان لكوري نيلسون رأي آخر، إذ شرحت أنها عادت في هذه التشكيلة إلى جذورها، وأنها استلهمت فكرتها من أحد أجدادها الذي هاجر من اسكوتلندا إلى الولايات المتحدة الأميركية في عهد الثورة، مما يفسر افتتاحها العرض بفستان من التارتان على نغمات من موسيقى القرب الاسكوتلندية. وعموما فإن نتيجة كل هذه التأثيرات تأتي لصالح المرأة التي تريد التميز، على شرط أن تفككها وتختار كل قطعة على حدة، خصوصا أن التصاميم الهندسية لم تقتصر على فساتين السهرة والمساء الطويلة بل أيضا على قطع النهار، مثل تنورات مستديرة بأطوال مختلفة وقمصان بيضاء بياقات عالية ومبتكرة.

على بعد دقائق من «سومرست هاوس»، وفي فندق السافوي كان اللقاء مع عرض ماريا غراشفوغل. وبالفعل كان المكان بديكوراته مسرحا رائعا للتشكيلة التي قدمتها غراشفوغل، وتضمنت لفتات للآرت ديكو حينا وفترة الجاز والعشرينات من القرن الماضي حينا آخرا، وهي فترة بدأت تشهد تأثيرا على الموضة منذ إعادة تصوير فيلم «ذي غرايت غاتسبي» (غاتسبي العظيم) الذي يقوم ببطولته ليوناردو دي كابريو. قبل العرض صرحت ماريا بأنها تعشق هذه الحقبة لأسباب أخرى أيضا: «لقد كانت الفترة التي بدأت فيها المرأة تعيش حرية من نوع جديد وعلاقة غير مسبوقة مع الأزياء. فقد تخلصت من الكورسيهات الضيقة، وبدأت تلبس أقمشة ناعمة ومثيرة وتصاميم منسابة ومريحة.. كان هناك نوع من التناغم بين المتناقضات». طبقت ماريا ما قالته بمزجها الإبهار والأنوثة ببعض الخشونة، من خلال مزجها أقمشة اللاميه مع التويد الذي كان خاصا بالرجل في ذلك الوقت. مزجت أيضا التصاميم المفصلة مع أخرى منسابة، إذ بدأت العرض بمجموعة من القطع التي تقطر ذهبا من قماش اللاميه نسقتها بقطع بنقوشات النمر، وظهرت فيها بنطلونات التشارلستون العريضة والطويلة إلى جانب أخرى مستقيمة ومفصلة. أتبعتها بمجموعة بألوان تحاكي الأحجار الكريمة مثل الجمشت الأخضر والعقيق الأحمر وأخرى بنقوشات ديجيتال، ظهرت في فساتين بأكمام مبتكرة وفي تنورات قصيرة بخصر عال. الرمادي أيضا حضر في بنطلون واسع وفي معطف طويل من التويد ارتدته عارضة فوق فستان من حرير الساتان بلون أخضر فستقي كان تلخيصا لفكرة التناقض المتناغم التي تحدثت عنها ماريا غراشفوغل وراء الكواليس. لكن رغم هذه الرحلة إلى الماضي والتي احتفلت فيها بالجاز والحرية والترف، فإن كل قطعة فيها جاءت بلغة تخاطب المرأة العملية والعاملة، امرأة تريد أن تكون متميزة لكن ليس على حساب راحتها. بعبارة أخرى إنها حرية من نوع جديد.