افتتاح متحف للعصابات في لاس فيغاس

في خطوة مثيرة تؤرخ عالم «الجريمة المنظمة»

مبنى المتحف في لاس فيغاس
TT

يساري الاتجاه والمحظوظ والنملة والثعبان والذقن والوجه ذو الندوب والمخ.. كلها تبدو أسماء مستعارة لأفراد العصابة مثل كنيات الأبطال الغرباء. ومنها عبارات مؤلفة من مقطعين لفظيين يجذبان الانتباه ويستحضران صورة الحيوانات الزاحفة أو النتوءات الجسدية أو القوى الخارقة.

اليوم، هنا في مدينة كانت فيها مثل تلك الشخصيات، تقبع بهدوء في بيئتها الطبيعية مثل زيوس وأسرته على جبل الأوليمب، حازت هذه الشخصيات في النهاية شيئا أقرب إلى المتحف الذي تستحقه.. «متحف العصابات».

إنه عمليا معرض بلغت تكلفته 42 مليون دولار لتأريخ أعضاء العصابات الأميركية، وهو يحتل مساحة 17.000 قدم مربع، ويشغل ثلاثة طوابق من مبنى تاريخي ارتفاعه 41.000 قدم مربع في ستيوارت أفينيو بالمدينة الأميركية السياحية الشهيرة. ومن خلال القطع الأثرية والعروض التفاعلية البارعة والمعارض المثيرة للذكريات والعواطف، إلى جانب الصور ومقاطع الفيديو، نتعرف على نشأة لاس فيغاس من الصحراء في مطلع القرن العشرين. وكيف أسهم العاملون في سد هوفر الضخم والقريب من المدينة في إحداث أول انفجار سكاني فيها. كذلك نرى كيف اخترقت العصابات الإجرامية عالم مشاريع الترفيه والبهجة، الذي لم يتجل للعيان حتى نهاية القرن العشرين، عندما تفوقت الكازينوهات الحديثة على سابقاتها القديمة في ما أصبح اليوم حاضرة ولاية نيفادا.

وهنا نعلم أيضا عن بعض أولئك المهاجرين من اليهود والإيطاليين الذين نظروا إلى «أرض الفرص» - أي الولايات المتحدة - باعتبارها «الفرصة للاستحواذ على أقصى ما يستطيعون الاستحواذ عليه»، من خلال المتاجرة في الدم والإمبراطوريات الوطنية التي توطدت أركانها على المرح الصاخب، إلى أن كبح جماحهم كل من عمليات التنصت على الخطوط الهاتفية، ونشاط المخبرين، والمزيد من الدماء.

على غرار عناصر كثيرة من الثقافة الأميركية المرتبطة بالعصابات الإجرامية - حتى تلك الكنيات أو الأسماء المستعارة - يمزج المتحف بين الجاذبية وإثارة الشعور بالاشمئزاز، والجانب العاطفي والواقعية الشديدة، والتلذذ والاشمئزاز. ومثل فيلم عن عصابة، يغوينا المعرض بتلك الشخصيات من ناحية، ومن ناحية أخرى، يذكرنا بمطالب العدالة. ويأتي اسمه العامي الجذاب «متحف العصابات» متناقضا إلى حد ما مع عنوان فرعي رسمي ذي طابع صارم على واجهة هذا المكتب البريدي السابق ودار القضاء بطرازها العائد إلى العصر الكلاسيكي الحديث في عام 1933، وهو «المتحف الوطني للجريمة المنظمة وتفعيل القانون».

من ناحية أخرى، في حين سعى المتحف إلى اكتساب طابع رومانسي بافتتاحه يوم الثلاثاء (الماضي) الذي تزامن مع الاحتفال بالذكرى الثالثة والثمانين ليوم القديس فالنتين - «يوم الحب» - حسب ما يشير، أو لمذبحة يوم فالنتين التي وقعت في شيكاغو، حيث قتل أعضاء من عصابة جورج موران على يد أفراد عصابات منافسين ظهروا متنكرين في زي ضباط شرطة، حرص هذا المتحف أيضا على التقليل من رومانسية أفراد العصابة. فهو يذكّرنا بأن تلك الواقعة نفذت بدم بارد، وكانت من البشاعة إلى حد أنها أدت إلى نقطة تحوّل مفصلي استحثت على إجراء تحقيقات فيدرالية موسعة ضد «الجريمة المنظمة». وهنا، في المتحف، نرى حقا جزءا من حائط الطوب الأصلي في المكان، حيث وقعت أحداث تلك المذبحة البشعة وتظهر عليه ثقوب مستديرة أحدثها الرصاص. وهو يعمل كشاشة غريبة يعرض عليها أحد الأفلام القصيرة الكثيرة بالمتحف، وهو «بوت ليغ وورز».

ويتكرر التناقض بين المتعة وإثارة الاشمئزاز. فربما نُصدَم من وصف مقتل برونو فاسيولا في مدينة نيويورك في عام 1990، الذي أصيب بطلق ناري في عينيه الاثنتين وجرى طعنه وتثبيت طائر كناري ميت في فمه. لكننا نشاهد أيضا صورا لمشاهير من خمسينات القرن العشرين في كازينوهات كانت تديرها العصابات ولنجوم سينما فاتنين يلعبون أدوار مجرمين. ويجري تجسيد عصابة «الجريمة المنظمة» بوصفها شبكة من الشر، علما بأن القائمين على المتحف يشيرون إلى أن اغتيال جون كنيدي كان نتيجة لمشاركة تلك العصابات في محاولة اغتيال فيديل كاسترو، ولكنه في الوقت نفسه عنصر جذب.

يبدأ مصممو المعرض، «غالاغر آند أسوشييتس»، و«شركات تطوير المحتوى» «باري بروجكتس»، وأمينة المتحف كاثلين كوكلي باري، تعاملهم الذي يمثل سلاحا ذا حدين بمجرد دخولك رواق مبنى المتحف، حيث ما زالت صناديق مكتب البريد القديم في مكانها وراء شاشات الفيديو واللوحات النصية. وستغريك كزائر فكرة المتحف الغريبة بدرجة مبالغ فيها. إذ يجري التعامل معك كعضو عصابة «مشبوه». ويضم المصعد المؤدي إلى الطابق الثالث، حيث تبدأ أجزاء المعرض الفعلي، مقطع فيديو لضابط شرطة يقرأ لك حقوق ميراندا خاصتك، ويتمثل «المعرض» الأول، في «صف» للشرطة، حيث تلتقط الصور ليصار إلى بيعها في النهاية بمتجر المتحف.

مع هذا، فإن هذا الزهو سرعان ما ينتهي. وعلى الفور، يتحول التركيز من الجاذبية الغامضة للعصابات الإجرامية إلى الحرب ضدها. ويتمثل قلب المتحف بقاعة محكمة تم تجديدها ببراعة، حيث عقدت اللجنة الخاصة للتحقيق في الجريمة المنظمة في التجارة ما بين الدول التابعة لمجلس الشيوخ جلستها السابعة في عام 1950 بقيادة استيس كيفوفر، السيناتور الديمقراطي البارز الراحل من ولاية تينيسي. ولقد عقدت جلسات كيفوفر في مدن موزعة على مختلف أنحاء الدولة وجرى بثها على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون وشاهدها 30 مليون شخص في أول ظهور إعلامي من نوعه. وهنا، تتحول قاعة المحكمة إلى خلفية لفيلم عن الجلسات.

ويزيد التركيز على تفعيل القوانين مع متابعة أجزاء المتحف، من خلال صور لمنازل مجهزة وأكشاك هواتف، ومخبرين موصومين بسمة الموت وعملاء سريين يحاولون منع عمليات قتل.

ولم يتجاهل المتحف إطلاقا الإشارات الدالة على رومانسية أفراد العصابات الإجرامية - يضم أحد أجزاء المتحف صورا عائلية حميمية لأفراد عصابات - غير أن مثل هذه الفتنة لم يسمح لها مطلقا بأن تكون مطلقة؛ حيث يعرض المعرض التالي تأريخا للوحشية وسفك الدماء.

لا يمكن أن تكون هناك مفاجأة في التركيز النهائي.

كان رئيس مجلس إدارة المتحف، غير الهادف للربح، إلين بي نولتون، عميلا خاصا في «مكتب التحقيقات الفيدرالي» الـ(إف بي آي) لمدة 24 سنة، وتولى إدارة فرع المكتب في لاس فيغاس. ويتمثل عضو آخر من أعضاء مجلس إدارة المتحف وأحد القوى الدافعة إلى إنشاء المتحف في أوسكار بي. غودمان، الذي عمل عمدة لولاية لاس فيغاس إلى أن أجبرته مدة ولايته على التقاعد، حينها كان قادرا على أن يترك منصبه لزوجته، كارولين جي. غودمان، عمدة لاس فيغاس الحالية.

وحتى غودمان كان له صورتان: إحداهما صورة العمدة السابقة والأخرى صورة محامي دفاع سابق للكثير من أعضاء العصابات الإجرامية في المدينة، بينهم مايير لنسكي وأنتوني سبيلوترو. ومن المفارقات، على نحو لا يثير العجب، لا تظهر لاس فيغاس بشكل سيئ من خلال هذا التجسيد لماضيها الموصوم بالعصابات الإجرامية، ذلك أن الهدف من هذا المتحف أن يكون مركزا لإنعاش منطقة وسط المدينة. ولقد أتى معظم التمويل من سلطة المدينة، مع دعم إضافي من الدولة والحكومة الفيدرالية، بما في ذلك مبلغ يقدر بنحو 9 ملايين دولار في صورة منح لتجديد المبنى التاريخي من قبل شركة الهندسة المعمارية، «ويست ليك ريد ليسكوسكاي».

أحد التعليقات الواردة هنا منسوب إلى توني أكاردو، وهو رئيس عصابة إجرامية في شيكاغو، وهو «لا نرغب في إنهاء سفك الدماء هناك. إنه أمر سيلحق الضرر بالسياحة».

وفي معرض مخصص لما يعرف على نحو تهكمي باسم «أعظم النجاحات»، تتركز الجرائم بالأساس في مدن أخرى بخلاف لاس فيغاس. إلى جانب ذلك، فإذا نظرت حولك خارج وسط المدينة: ستجد أن المظهر الاقتصادي قد تضاءل في السنوات الأخيرة، لكن إرث المشهد الذي يسيطر عليه أفراد العصابات الإجرامية والناحية العاطفية لا يزالان مبهرين.

غير أن رومانسية أفراد العصابات أكثر هيمنة بكثير في معرض آخر للعصابات في المدينة، إذ جذب المعرض الذي حمل اسم «تجربة عصابات لاس فيغاس» عند افتتاحه الأسبوع الماضي في تروبيكانا، لقد حول الزائرين إلى أفراد شغوفين بالتعرف على حياة أفراد العصابات، من خلال رحلة عبر عدة تجهيزات مسرحية تجسّد تاريخ العصابات، ويصادفون على طول الطريق صورا متحركة لجيمس كان وميكي رورك وشخصيات سينمائية أخرى تجسد أفراد عصابات تخاطبهم. ولقد بدا العرض مفلسا من الناحية الميلودرامية، لكنه سرعان ما سيكتسب إشراقة جديدة تحت عنوان «موب أتراكشن لاس فيغاس». وسيتنقل الزائرون عبر تجهيزات عرض مسرحي تعرض تاريخ العصابات. ففي الوسط، توجد سلسلة معارض لتحف فنية قدمتها أسر أفراد العصابات المحلية. وفي جناح يحمل اسم «إلى مايير لنسكي»، توجد أفلامه المنزلية وتجهيزاته وقصائده المفضلة. وفي جناح آخر، يوجد أثاث غرفة المعيشة الخاصة بسام جيانكانا «أكثر الرجال كفاءة وشراسة» لدى آل كابوني. إن هذه الشخصيات تهدف بالفعل إلى اجتذابنا، وتشير جولة قمت بها للمخطط المقترح للمعرض إلى أنه سيحوّل أفراد عصابات «الجريمة المنظمة» إلى وسيلة ترفيه ممتعة، ناحيا بعيدا عن الجدية المفرطة.

إن لـ«متحف العصابات» اهتمامات مختلفة تماما، لكن يبقى الخلاف مع قصص العصابات الإجرامية. وبقدر ما، ربما يكون ذلك أمرا يصعب تجنبه، جزئيا بسبب المكان الذي نقف فيه: «كانت لاس فيغاس (مدينة مفتوحة)»، هكذا يكشف لنا المعرض، «بمعنى أنه لم تهيمن عصابة (عائلية) بعينها على المدينة. وهذا ما جعلها مكانا رائعا بالنسبة لأفراد العصابات بمختلف أنحاء الدولة ممن كانوا شغوفين ببدء مغامرات جديدة».

إن الفنادق التي كانت تديرها عصابات هي التي شكلت ثقافة لاس فيغاس التي نعرفها. بالطبع كانوا أشرارا، لكنهم يخاطبون الجانب الشرير داخل كل منا، مع ضمان درجة من المناعة: «ما يحدث في فيغاس، يظل مقصورا على فيغاس».

في أجنحة العرض هنا، تتسم الفنادق التي تعود إلى فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين بالطابع التجريبي الحر. فنرى صورة لإلفيس بريسلي وليبراتشي يقومان بدور مهرّجين في حقبة الخمسينات من القرن الماضي، أو صورة لمارلين ديتريش تؤدي عرضا مع لوي أرمسترونغ في الريفييرا في عام 1962. وتعرض صورة هنا من فندق «ذي ساند» لرياضة تجديف وصمت ناثان ديترويت بالعار: كان يجدف في حمام سباحة.

إضافة إلى ذلك، من خلال تبنيهم مبدأ الخروج على القانون وتأكيدهم أهمية القوة عن الحياة والموت، ربما يبدو أفراد العصابات الإجرامية متمتعين بقوى الفرص التي يعتبر المقامرون هنا عبيدا لها.

كانت إيماءاتهم وقراراتهم سريعة ومؤكدة تماما كصوت سقوط كرة في شق صغير بلعبة الروليت؛ وكانت جرائم القتل التي يرتكبونها على درجة آلية من الشراسة.

إنهم لا يزالون آلهة فيغاس. وهنا، من خلال قدر كبير من النشاط والحيوية، أصبحوا عناصر تجسد كلا من الولاء والانتقام.

* خدمة «نيويورك تايمز»