«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي الدولي - 10

جوائز برلين عكست الخبرة وقبول الجديد معا

الأخوان تافياني على منصّـة الفوز
TT

كالعادة تحلّق الكثيرون حول النتائج التي أعلنت مساء يوم السبت لكن حتى من قبل الوصول إلى نهاية الدورة الثانية والستين، وبل من بعد أيام على بدء المهرجان، كان هناك من يسعى للجزم بأن الفيلم الذي أعجبه هو الذي سينال الجائزة الأولى، في حين أن ما يعجبه قد لا يعجب لجنة التحكيم أو رئيسها مايك لي. كذلك غاب عنه أن الكثير من الأفلام التي وجدناها تستحق لم تنل الجائزة الأولى في أي من المهرجانات الرئيسية.

لقد عرض المهرجان ثمانية عشر فيلما في مسابقته. كثير منها استحق العرض داخل المسابقة، وكان هناك بعض الأفلام التي عرضت خارج نطاق التنافس، تستحق العرض داخل ذلك النطاق. المواضيع تنوّعت: من الموضوع الأسري في الفيلم الألماني «بيت عطلة نهاية الأسبوع» لهانز كرستيان شميد، إلى الموضوع المُلقى على خلفية سياسية مثل «مخطوفون» للفلبّيني برلانتي مندوزا. من ذلك الذي يُقدّر لحكمة إخراجه، كما لدى شيخي السينما الإيطالية الأخوين تافياني في فيلمهما الناصع «سيزار يجب أن يموت» إلى ذلك الذي يُقّدر لجماله وهدوء انسيابه كالفيلم اليوناني «متيورا» لسبيروس ستاتوبولوس. ثم بالطبع كانت هناك بعض الأفلام التي حملت أسماء كبيرة سقطت، مثل زانغ ييمو، وأخرى شابّة لمعت كالفرنسي التشادي آلان غوميز (اليوم) والبرتغالي ميغويل غوميز (تابو).

إذا ما كان كل ذلك وسواه طبيعيا ولا بد من حدوثه، فإنه بات من غير الطبيعي مقارنة ما تحمله جائزة برلين من معان وأهمية بجوائز المهرجانات العربية. وكما ذكرنا هنا ذات مرّة، المهرجان، مثل برلين أو فنيسيا كان الذي يطلق أفلامه الفائزة باتجاه المسابقات الكبرى (من الغولدن غلوب والبافتا والفيلم الأوروبي وصولا إلى الأوسكار) ليس كمعظم المهرجانات (عربية وغير عربية) التي لا تعني جوائزها سوى القدر المحدود من الفائدة (مادية آنية في معظم الحالات).

الساعات الأخيرة قبل صدور حكم لجنة التحكيم كانت مطبقة. صامتة. الترقّب كان في أوجه، على عكس مهرجاناتنا حيث تتسرّب النتائج قبل إعلانها فيتم القضاء على المفاجأة التي هي أهم عناصر تلك اللحظة الأخيرة. في برلين ذروة مقصودة وعندنا القصد هو الأذى.

بالتالي، كانت التوقّعات في برلين متضاربة في دورة لم تشهد تميّزا من أي نوع، بل جملة من الأفلام ذات الغالبية المتشابهة والمتوازنة. فجأة، مع إعلان اسم الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى، في نهاية الساعة الاحتفالية المخصصة لتوزيع الجوائز، صار لدينا رابحون وخاسرون.

الجائزة الكبرى ذهبت بالفعل لمن يستحق: «قيصر يجب أن يموت» للأخوين الإيطاليين باولو ويتوريو تاياني، حاز الدب الذهبي وجائزة أفضل فيلم مستقل في الوقت ذاته. وصعد تلك المنصّة الشقيقان المعمّران (يتوريو في الثانية والثمانين وباولو يصغره بعامين) وعلى وجهيهما سعادة ظاهرة وقدر كبير من التواضع والامتنان. الفيلم يتحدّث عن نزلاء أحد السجون الأكثر مناعة وهم يتدرّبون، ثم يقومون بتمثيل مسرحية «جوليو سيزار»، وكيف تتغيّر حياة بعضهم تبعا لهذه الفرصة التي لم يتوقّعها أي منهم. «الريح فقط» لبنس فلايغوف (وهو إنتاج مشترك بين المجر وألمانيا وفرنسا) هو أحد الأفلام التي عكست مشاكل اجتماعية حاضرة وقد فاز الفيلم بالجائزة الثانية (الجائزة الكبرى للجنة التحكيم). حكايته المسرودة بصدق وبمستوى فني جيّد مستوحاة من أحداث حقيقية وقعت في هنغاريا وذهب ضحيّتها ثمانية غجريين وذلك لأسباب محض عنصرية. هذه الجائزة الثانية كانت محض منافسة الفيلم الألماني «باربرا» لكريستيان بتزولد. في الحقيقة، ذهبت بعض التوقّعات لتغليب احتمال فوزه بالدب الذهبي الذي ذهب للأخوين تاياني، لكن لجنة التحكيم التي رأسها المخرج البريطاني مايك لي منحته جائزة أفضل مخرج. وعلى الرغم من الحساسية العالية التي أبدتها بطلة الفيلم نينا هوس لاعبة شخصية ممرّضة تخطط للهرب من ألمانيا الشرقية (في أحد أعوام ما قبل انهيار النظام الشيوعي) فإن جائزة أفضل ممثلة تجاوزتها إلى الممثلة الأفريقية راتشل موانزا عن دورها في «ساحرة الحرب» لكيم غيووَن. أما المقابل الذكوري لها فكانت من نصيب ميكيل بو فولسغارد في فيلم «علاقة ملكية» وهو إنتاج تشيكي دنماركي من إخراج نيكولاي أرسل.

هذا الفيلم الذي لم يرتفع كثيرا عن حس المسلسلات التلفزيونية، فاز أيضا بجائزة أفضل سيناريو، بينما ذهبت جائزة أفضل إنجاز تقنية للوتز رايتماير، وهو مدير تصوير الفيلم الصيني «سهل الغزال الأبيض».

هذه هي الجوائز الرئيسية (وهناك سواها في أقسام مساندة) لكن الواضح أن التحكيم فضّل الخبرة في المركز الأول من نتائجه ثم وزّع الجوائز الأخرى على المواهب الجديدة. هذا إلى حد بعيد لم يكن خيارا جاهزا، نظرا لأن معظم المشتركين في مسابقة الدورة المنجزة كانوا من الجدد أو شبه الجدد في عالم السينما.

الاشتراك الصيني: حروب بهلوانية

* كما لو أن المهرجان كان بحاجة إلى زيادة شعبيّته، أو كما لو أن الخلط بين الفن والتكنولوجيا جائز، قام مهرجان برلين السينمائي بعرض فيلم من تلك التي تنتجها الصين حول أبطال «يتشعلقون» بالهواء، بل ويتجمّدون بين السماء والأرض، بلا حراك، مبرهنين على أن الجاذبية ليست سوى نظرية لا مكان لها فوق أرض الصين وفي زمن فنون القتال حيث يتشقلب المتبارزون وينتقلون من موقع إلى آخر بمجرد الرغبة في التحرّك في الاتجاه المرغوب. طبعا هناك حبال ربطتهم من تحت آباطهم، لكن هذا لم يكن المفترض ظهوره، أو حتى تخمينه.

«السيوف الطائرة عند بوابة التنّين» يصرخ العنوان، ويمضي الفيلم بالأبعاد الثلاثة: العرض لكي يوسع إطار استعراضه، والارتفاع، لكي يتيح للممثل كامل هيئته، والعمق لكي يبدو رأس الممثل الأقرب إلى الكاميرا كما لو كان رأس المشاهد الجالس أمامك. من حسن الحظ أنه لم يتلق ضربات السيوف بالخطأ. الأحداث بالطبع تقع في الزمن الغابر. هنا في عهد حكم سلالة مينغ. الفساد، يخبرنا الفيلم، مطبّق؛ لكن جت لي سيحرر البلاد منه عبر سلسلة من المبارزات البهلوانية مع عتاة المجرمين الذين يريدون نهب ثروة الناس البسطاء. لكن العنصر الذي يُضيف زادا إلى هذا الصراع وجود ذهب تحت الأرض ومحاولة الأشرار نهبه. طبعا لا مجال لذلك طالما أن جت لي وجماعته وبعض مبارزي منغوليا الأشدّاء في المواجهة. بعد ساعتين من العرض يتأكد لمن ارتاب لمن الغلبة.

النظّارات الملوّنة حاضرة لكي تشاهد بأم العين وعن كثب ذلك العبوس كلّما التقى الأشدّاء في مواجهتهم القتالية، لكن ما يوفّره الفيلم، لجانب خزعبلاته، هو رغبة البعض الانسياق في الخلط بين ما هو فن وما هو تكنيك. يكفي أنه عند تحقيق فيلم بالأبعاد الثلاثة فإن اختيار موقع الكاميرا لا يعد اختيارا تفرضه الحاجة والموهبة ولكنه قرار هندسي بحت، وذلك لإضفاء ذلك البعد الثالث. ما هو أسوأ من ذلك، أو يوازيه سوءا على الأقل، هو أن الفيلم، كما أخرجه تسوي هارك، يلوك الكثير من الحوارات بين مشاهد القتال، والتصوير (من تشوي شانغ فاي) باهت الألوان. جزء من ذلك يعود إلى أن المنطقة التي يدور فيها تصوير العديد من المشاهد الصحراوية، لكن الصحراء لعبت الدور الأول في «لورنس العرب» ولم تكن صورته باهتة على الإطلاق. الأفدح في كل ذلك أن الفيلم في المسابقة. هل رأيت مايك لي وهو يستقيل احتجاجا؟ لا، لكني واثق من أنه أغمض عينيه وتمنّى لو كان في مكان آخر.

أفضل منه بمراحل كثيرة وأصدق وتيرة، فيلم وانغ كوانان «سهل الغزال الأبيض»: هو أيضا دراما تاريخية لكن بسيوف تبقى على الأرض. حكايته تأخذ شكلا ملحميا تستحقّه وقصّته تبحث فيما آل إليه عدد من شخصيات قرية ما بين 1910 و1937.

وانغ كوانان كان قد نال ذهبية برلين سنة 2007 عن فيلمه السابق «عرس تويا» الذي دار في مقاطعة منغوليا والذي كان قد كتبه بنفسه. هذه المرّة اشتغل على رواية تاريخية لتشن جونغشي (نشرت سنة 1993) تدور حول عائلتين في منطقة زراعية عاشتا في سلام إلى أن دخلت بينهما امرأة من مقاطعة أخرى سرعان ما وقع في أسر جمالها ابن أحدهما بعد موت زوجها. حينما يتحوّل الزوج الجديد إلى طريد القانون، يحاول أكثر من رجل الوصول إليها ومعاشرتها وأكثر من رجل ينجح لكن مع نتائج تضع حدّا للألفة والوئام السابقين بين العائلتين.

يفتتح الفيلم على تلك السهوب المزروعة قمحا وعلى ثلاثة أولاد يلعبون هم من سيكبرون أمام أعيننا لتدور الحكاية حول صراعاتهم المقبلة. المرء حين يراجع في البال ما شاهده سيتذكر أن هذه المشاهد الأولى هي الوحيدة التي تعكس سعادة، بينما يغرق باقي الفيلم في مشاكل عاطفية كما تقدّم تُضاف إليها أوضاع معيشية واقتصادية صعبة («الطاعون جاء وراء المجاعة» يقول أحدهم). ما آلت إليه كل شخصية هو أمر محزن، لكن تلك البداية المرحة تلعب دور الإيحاء بأن تلك كانت آخر مرّة نال الصينيون حظّهم من المرح والسعادة قبل تولّي الحكم الشيوعي أمر البلاد. في هذا الإطار لا يتعرّض الفيلم للشيوعية، لكنه يعرض بعد فساد مديري المقاطعات والمسؤولين في ذلك الزمن الغابر.

هناك بعض العنف والجنس في هذا الفيلم لكن لا شيء لغاية الاستعراض بل للضرورة، وهو يترك في النفس مرارة نظرا لأن شخصياته تثير التعاطف بصرف النظر عن أفعال معظمها. لا يمكن، مثلا، إلا الإحساس بمدى الضيم الذي تعاني منه المرأة والحب الجارف الذي يوجّه بعض الراغبين بها. المخرج يأخذنا في رحلة ملحمية داكنة تذكّرنا بفيلم برناردو برتولوتشي «1990» الذي تحدّث أيضا عن عائلتين في مطلع القرن الماضي تحت وشاح النزاع بين الفاشية والشيوعية في إيطاليا آنذاك.

فيلم كوانان ينتهي حيث بدأ الفيلم الصيني الثالث في المهرجان «زهور الحرب»، ذلك الفيلم المتهالك لزانغ ييمو الذي نقلنا وقائعه في تقرير سابق. لكن في حين يوظّف ييمو الغزو الياباني الذي بدأ آنذاك لكي يقسّم العالم إلى أخيار مطلقين وأشرار خالصين، فإن كوانان يكتفي بغارة جويّة قاصفة إيذانا بأن مرحلة جديدة في حياة الصين والصينيين بدأت حينها.