في الستينات من القرن الماضي كان عدد سكان مدينة أربيل لا يتجاوز مائة ألف نسمة، ولكن كانت هناك 5 صالات عرض للسينما، 3 منها صالات مغلقة، وصالتان صيفيتان. واليوم يتجاوز عدد سكانها المليون نسمة وليس فيها صالة عرض سينمائي واحدة.
كانت السينما في ذلك العصر من الخمسينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي هي السلوى والمنهل الوحيد لاكتساب الثقافة، في ظل غياب أية وسيلة اتصال أخرى بالعالم الخارجي، فحتى البث التلفزيوني الحكومي العراقي لم يكن يصل إلى مدن كردستان في تلك الفترة، وكانت السينما هي المتنفس والمنفذ الوحيد للإطلالة على العالم الخارجي، فما عدا بعض الصحف والمجلات العربية التي كانت تأتي إلى كردستان، لم يتسنّ لجيل الستينات التعرف على الثقافة الغربية إلا من خلال أفلام السينما..
وبحسب الزميل الصحافي العريق طارق إبراهيم شريف المتخصص بالكتابة عن تاريخ أربيل أنشئت أول صالة عرض سينمائي في أربيل عام 1946، وهي سينما «صلاح الدين» التي كانت تقع قبالة مبنى المحافظة الحالية. ثم بعد عام واحد أنشئت صالة أخرى وهي سينما «الحمراء» وتقع قرب حديقة مركز المدينة المعروفة بـ«باغي شار». وظلت هاتان الصالتان تتنافسان منفردتين لما يقرب من عقدين بعرض الأفلام السينمائية، قبل أن تتحول صالة سينما «سيروان» الصيفية بمحاذاة القلعة التاريخية عام 1967 إلى صالة شتوية حديثة مجهزة بأحدث أجهزة العرض ومكيفات الهواء الكبيرة والمقاعد المريحة.
وبعد سنة أضيفت صالتان للعرض الصيفي وهما سينما «جنديان» التي افتتحت عرضها الأول بالفيلم اللبناني «مرحبا أيها الحب»، بطولة نجاح سلام ومحمد سلمان، وسينما «سفين» بفيلم «شارع الحب» للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وبذلك أصبح العدد 5 صالات سينما في نهاية الستينات.
كان شباب المدينة برمتهم شغوفين بالسينما وبأفلامها التي تعرض، حتى إن بعضهم بات حضوره يوميا لمشاهدة الأفلام التي تعرض فيها. وكانت نوعية الأفلام التي تجذب المشاهد في تلك الحقبة هي أفلام رعاة البقر (الويسترن) وأفلام المصارعة الإيطالية مثل «هرقل»، إضافة إلى الأفلام العربية، وخاصة المصرية لذلك الجيل من الممثلين مثل رشدي أباظة وشكري سرحان وفريد شوقي وإسماعيل ياسين وكمال الشناوي وغيرهم. ومن الممثلات فاتن حمامة وسامية جمال وبرلنتي عبد الحميد ولبنى عبد العزيز وماجدة ومريم فخر الدين وصباح وهدى سلطان وغيرهن. ولكن السباق كان محتدما بين صالتي «صلاح الدين والحمراء» على عرض أفلام المطربين الشهيرين، فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، حيث كان ذلك الجيل منقسما بين عشاق هذين المطربين، فمع أي فيلم يعرض في صالة سينما «صلاح الدين» لفريد الأطرش، كانت سينما «الحمراء» تخرج من جعبتها فيلما لعبد الحليم حافظ.
وكانت العوائل الأربيلية العريقة من رواد مثل هذه الأفلام المصرية تحديدا، وكانت هناك الألواج في نهاية مقاعد السينما من «8 إلى 10» ألواج، وهي خاصة بالعوائل، وكل لوج كان يحتوي على أربعة كراسٍ، وكل منها منعزل عن الآخر ولكنها مصفوفة جنبا إلى جنب، وكانت بطاقاتها متميزة عن بطاقات المتفرجين الآخرين، يكتب عليها «خاص بالعوائل»، وكانت معظم أوقات المشاهدة هي العرض المسائي الذي كان يبدأ عادة من الساعة السابعة مساء.
أما الدعايات للأفلام فكانت إدارات السينما تلصق لوحة إعلانية وكانت عادة ترسم على قطعة قماش كبيرة تحمل عنوان الفيلم وأبطاله، وتلصق على لوح خشبي كبير يحمله أحد عمال السينما على كتفه ويطوف بها شوارع المدينة، وكان هناك شخص آخر يرافقه ويصيح بأعلى صوته «تعالوا إلى الفيلم الجديد للممثل الفلاني، أروع قصص الحب» أو عندما كان يروج لفيلم مغامرات يقول «الفيلم الأجنبي فلان الفلاني مليء بالمغامرات والتشويق». وهكذا كانا يطوفان بأرجاء المدينة للدعاية. وفي حال وصول فيلم حديث أو ضخم التكاليف كانت هناك فرقة تعزف على الطبل والزرنا ترافق حامل اللوح الخشبي لجذب أكبر انتباه سكان المدينة للفيلم.
يروي جودت أحمد وهو في نهاية الخمسينات من عمره ذكرياته عن تلك الفترة قائلا «كنت ما زلت طفلا في تلك الفترة، ولكني كنت حريصا على مشاهدة الأفلام السينمائية، وكنت أدخر من مصروفي اليومي الذي لا يتجاوز عشرة فلوس لكي أذهب بعد أن يصل إلى أربعين فلسا لمشاهدة أحد الأفلام»، أما في الأعياد فقد كانت المصاريف مفتوحة، فالعائلة كانت تصرف مبلغا محترما يكفي لمشاهدة الأفلام ثلاث مرات يوميا، هذا بالإضافة إلى (العيدية) التي كنا نحصل عليها من الزوار المهنئين من أقاربنا».
في تلك الفترة كانت الأعياد موسما جيدا لعرض الأفلام الجديدة، وكانت صالات السينما تستورد عشرات الأفلام لعرضها خلال أيام العيد الأربعة، وبواقع خمسة عروض في اليوم الواحد تبدأ من الساعة التاسعة صباحا إلى السابعة مساء. وكان الأطفال والشباب يتسابقون لمشاهدة أفلام العيد التي كانت أكثر تميزا عن الأيام الأخرى، وكانت إدارات السينما تعرض ملخصا عن كل فيلم في اليوم السابق للعيد بعروض مجانية على سبيل الدعاية وجذب المشاهدين.
ومع بدء أول أيام العيد كان الأطفال يتدفقون على السينما، وكان الازدحام على أشده، وغالبا ما كان البعض منهم يتعرض إلى الاختناق وهو يصارع الآخرين ويتسابق معهم للحصول على بطاقة الدخول من الشبابيك الصغيرة التي كانت مخصصة لبيع التذاكر.
وكما ذكرنا آنفا كانت صالتا سينما «صلاح الدين» و«الحمراء» من أقدم صالات العرض في أربيل، ولكن في عام 1967 تم افتتاح سينما «سيروان» التي كانت سابقا سينما صيفية، حولها صاحبها إلى سينما شتوية بديكورات جميلة ولافتة في ذلك الحين، وكانت مقاعدها مريحة أكثر من سابقيها، وتم افتتاحها بالفيلم الهندي «جنكلي» للممثل شامي كابور وسايرابانو، واستمر عرضه لعدة أسابيع، وتحول معظم رواد السينما إلى هذه الصالة الجديدة التي تميزت عنهما بعرض الأفلام الجديدة.
آخر صالات السينما التي أنشئت في أربيل كانت صالة سينما «كريستال» في نهاية الثمانينات، وتميزت بمواصفاتها العالمية من حيث الأجهزة التقنية المتطورة وديكورات الصالة، ولكن لم تمر سوى فترة قليلة حتى أشهرت إفلاسها، وبالتالي تم إغلاقها، والسبب كما يروي دلسوز محمد يعود إلى انتشار الفيديو المنزلي، وفتح الكثير من المحلات لتأجير الأفلام في المدينة. ورغم أن بيع أو تأجير الأفلام كان ممنوعا على مستوى العراق كافة، فإن السلطات الأمنية في مدن كردستان كانت تتغاضى عن تلك المحلات بهدف إشغال الجيل الشبابي، وعدم انجذابهم للعمل بالسياسة، أو الذهاب إلى الجبال للالتحاق بصفوف البيشمركة. ويقول دلسوز «كان هناك المئات من أبناء العراق من المدن الأخرى مثل بغداد وغيرها يأتون إلى أربيل لشراء أفلام الفيديو وينقلونها إلى بغداد خفية وبعيدا عن أعين نقاط التفتيش، فالنظام في ذلك الحين كان يمنع تداول أية أفلام غير عراقية والتي كانت شركة (بابل) التابعة لعدي صدام حسين توزعها في العراق، وكانت محلات أربيل تمتلئ بالأفلام المصرية والأميركية والأجنبية الأخرى مما يدفع بالكثير منهم وخصوصا العرب المجندين الذين كانوا يخدمون في معسكرات أربيل أن يأتوا إلى تلك المحلات ويشتروا مجموعة من الأفلام لأخذها معهم عند إجازاتهم، وكان البعض يتاجر بها أيضا».
اليوم تحولت معظم تلك الصالات إلى مخازن مؤجرة للتجار يخزنون فيها المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، فيما أفلست معظم المطاعم ومحلات بيع العصائر والحلويات التي كانت تصطف إلى جانب أبواب السينما، بسبب غلق تلك الصالات، وانتقل معظمها إلى أماكن أخرى. والطيور باتت تعشش فوق تلك الصالات وتملأها بمخلفاتها، وأصبحت واجهات تلك الصالات مقززة ومثيرة للاشمئزاز بعد أن كانت تتزين بمختلف ألوان الملصقات لأحدث الأفلام المشوقة التي كانت تجذب الآلاف من شباب المدينة.
السينما أصبحت اليوم في كل بيت بفضل الفضائيات وأقراص الـ«دي في دي» التي يتسابق موزعوها لترويج أحدث الأفلام السينمائية التي لم تعرض بعد حتى في صالات الكثير من الدول العربية، ورغم وفرة تلك الأفلام والقنوات، فإن الجيل الستيني ما زال يحن إلى تلك الصالات وإلى أفلام ذلك الزمن الجميل.