حسب دراسة حديثة.. جزيئات نانوية قد تؤدي لخلل في امتصاص الأمعاء للحديد

دعوات عالمية متزايدة لإجراء مزيد من البحوث للتأكد من أمنها وسلامتها

TT

على الرغم من الاستثمار العالمي الواسع والمكثف في مجال تكنولوجيا النانو (التقنيات المتناهية في الصغر)، والاستغلال التجاري المتزايد لها على مدى العقد الماضي، والآفاق الواعدة التي تنتظرها، فإنه لا يزال هناك فهم غير كاف حول جوانب وقضايا الصحة والبيئة والسلامة لهذه المواد النانوية.

وتكنولوجيا النانو، توصف بأنها تصميم وإنتاج وتطبيق المواد والأجهزة والأنظمة والتحكم في شكلها وخواصها وحجمها، بحيث لا يزيد على حجم الذرة والجزيء، ومصطلح «نانو تكنولوجي» (Nanotechnology) مشتق من الكلمة الإغريقية «نانوس» (nanos)، وتعني «القزم» أو الشيء المتناهي في الصغر، و«النانومتر» هو مقياس مقداره واحد من ألف مليون من المتر، حيث يبلغ قطر الشعرة الواحدة من شعر الإنسان نحو 80 ألف نانومتر، وقطر خلية الدم الحمراء يبلغ نحو 7000 نانومتر، ويبلغ قطر جزيء الماء نحو 0.3 نانومتر، ويرجع الاهتمام المتزايد بتكنولوجيا النانو إلى أن صغر الحجم يعطي خصائص كيميائية وفيزيائية جديدة، فريدة ومفيدة تختلف اختلافا كبيرا عن خصائص الأحجام الكبيرة الأصلية.

وقد دخلت المواد النانوية المتناهية الصغر بالفعل في حياتنا اليومية في العديد من الأغذية والأدوية، حيث يقول الباحثون إن الجزيئات النانوية (Nanoparticles)، تستخدم الآن بانتظام في المواد الغذائية والمستحضرات الدوائية، ويستهلك الفرد في الدول المتقدمة، من هذه الجزيئات متناهية الصغر، ما يصل يوميا إلى 100 تريليون، معظمها من (titanium dioxide)، (silicates)، (aluminosilicates)، الموجودة في المضافات الغذائية.

ونتيجة لذلك، كان هناك حرص لدى العلماء والباحثين للتحقق من الآثار الصحية الضارة المحتملة لهذه الجزيئات النانوية، وقد ظهرت في الآونة الأخيرة دعوات متزايدة بضرورة إجراء المزيد من الدراسات والبحوث والتجارب لتقدير الآثار الصحية والبيئية المحتملة للمواد النانوية قبل استخدامها.. ففي دراسة أميركية حديثة منشورة في 12 فبراير (شباط) الحالي بالنسخة الإلكترونية من مجلة «نيتشر نانو تكنولوجي»، وتم دعمها من قبل المؤسسة الوطنية الأميركية للعلوم ومكتب ولاية نيويورك للعلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي وفيلق المهندسين بالجيش الأميركي، وقام بها فريق بحثي بقيادة البروفسور مايكل شولر أستاذ الهندسة الكيميائية رئيس قسم الهندسة الطبية الحيوية بجامعة كورنيل الأميركية؛ أعلن أن جزيئات نانوية من البوليستيرين، التي يتم ابتلاعها مع الأغذية، يمكن أن تؤدي إلى خلل في عملية امتصاص الأمعاء للحديد، ولبعض الفيتامينات. فقد درس الباحثون تأثير جزيئات البوليستيرين النانوية (Polystyrene nanoparticles)، التي وافقت عليها إدارة الغذاء والدواء الأميركية، وهي مواد موجودة في المضافات الغذائية والفيتامينات، ووجدوا أنها قد أثرت على امتصاص الحديد والذي يعد من المغذيات الأساسية لنمو الخلايا، حيث اختبر الباحثون تعرض كل من الدجاج وخلايا أمعاء بشرية مستزرعة في المختبر لجزيئات البوليستيرين النانوية متناهية الصغر، ووجدوا أن النتائج كانت متطابقة في الحالتين. فقد وجد الباحثون في هذه الدراسة أن التعرض لهذه الجزيئات النانوية بكثافة عالية وعلى المدى القصير، يمنع الأمعاء من امتصاص الحديد، ويتسبب التعرض لهذه الجزيئات النانوية على المدى الطويل في تغيير هياكل الخلية المعوية والسماح بتنامي تعويض امتصاص الحديد.

وقالت جريتشين ماهلر، الأستاذة المساعدة بقسم الهندسة الحيوية بجامعة بينغهامتون بولاية نيويورك الأميركية المؤلفة الرئيسية لهذه الدراسة، إنه «تم اختيار الدجاج، لأنه يمتص الحديد في الجسم مثل البشر، كما أنه حساس للنقص في المغذيات الدقيقة»، وتعد المغذيات الدقيقة والأساسية بالأغذية (micronutrient)، مثل الحديد واليود وفيتامين «أ»، من المواد الضرورية للنمو وتعزيز القيمة الغذائية للأغذية.

استخدم الباحثون جزيئات البوليستيرين النانوية البالغ قطرها 50 نانومترا، والمتاحة تجاريا والتي تعتبر عموما آمنة للاستخدام البشري، ووجد الباحثون أن التعرض الحاد المتتالي (بكثافة عالية) وعلى المدى القصير من بضع دقائق لبضع ساعات، أدى إلى انخفاض امتصاص الأمعاء للحديد في كل من الدجاج وخلايا الأمعاء في المختبر، ولكن بعد التعرض البطيء وعلى المدى الطويل (ملليغرامان من جزيئات البوليستيرين النانوية لكل كيلوغرام واحد لمدة أسبوعين)، وجد الباحثون أن هناك تغييرات في هيكل الزغابات المعوية بالأمعاء، مؤدية إلى زيادة في مساحة سطح الأمعاء، وكان هذا بمثابة إعادة تشكيل فسيولوجي فعال، أدى إلى زيادة في امتصاص الأمعاء للحديد.

والزغابات المعوية (Intestinal Villi)، (مفردها زغابة Villus)، هي نتوءات أو زوائد دقيقة تشبه أصابع اليد موجودة في جدار الأمعاء الدقيقة، وتعمل على زيادة مساحة سطح الامتصاص في الأمعاء الدقيقة.

وأشار البروفسور مايكل شولر، قائد الفريق البحثي بجامعة كورنيل الأميركية، إلى أن «إعادة التشكيل الإيجابي للزغابات المعوية، يوضح مدى تكيف الجسم مع التحديات»، وأضاف أن «هناك زيادة في تعرض الإنسان للجزيئات النانوية، فهذه الجزيئات متناهية الصغر تدخل في بيئتنا بطرق عديدة ومختلفة»، وقال شولر إنه «إجماليا، لدينا بعض الضمانات على أن الجزيئات النانوية ليست ضارة، ولكن قد يكون هناك مزيد من الآثار الدقيقة التي تجعلنا في حاجة للقلق».

وتقول جريتشين ماهلر، المؤلفة الرئيسية لهذه الدراسة، إن «معظم الدراسات على الجزيئات النانوية حتى الآن، قد ركزت فقط على الآثار الصحية المباشرة»، وتتساءل بأنه «في حال تناول الشخص لأدوية مكونة من جزيئات نانوية لعلاج ظروف صحية معينة، على سبيل المثال، هل ستكون هناك عواقب فسيولوجية غير مقصودة؟».

وحاليا، تخطط الباحثة ماهلر لدراسة الآثار الناجمة عن استخدام جزيئات نانوية مختلفة على امتصاص العناصر الغذائية، وتقول إن «الجزيئات النانوية الأكثر أهمية لدراستها المقبلة، ستكون تلك التي تستخدم بالفعل في الغذاء والتطبيقات الدوائية».

على صعيد آخر ذي صلة، أعلن علماء من جامعة بليموث البريطانية بقيادة البروفسور ريتشارد هاندي أستاذ علم السموم البيئية بالجامعة، خلال شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي 2011، أن جزيئات أكسيد التيتانيوم النانوية المتناهية الصغر (titanium oxide nanoparticles) لها تأثير ضار على الدماغ وأجزاء أخرى من الجهاز العصبي المركزي لدى سمك الترويت، فقد قام الباحثون بتعريض سمك الترويت قوس القزح (Rainbow trout)، الذي يتميز بوجود خط بلون قوس القزح، لجزيئات أكسيد التيتانيوم النانوية، التي تستخدم على نطاق واسع كعامل تبييض في العديد من المنتجات، بما في ذلك الدهانات، وبعض منتجات العناية الشخصية، وتطبيقات في صناعة الغذاء، وقد وجد الباحثون أن هذه الجزيئات النانوية تسبب فجوات (ثقوب) في أجزاء من دماغ السمك وفي موت الخلايا العصبية بالمخ.

ونتائج هاتين الدراستين، مع غيرهما من الدراسات التي تتحقق من الآثار البيولوجية للجزيئات النانوية، ربما تؤثر على ضوابط وسياسات حماية البيئة وسلامة الإنسان من المواد النانوية.

جدير بالذكر أنه قد صدر خلال شهر يناير (كانون الثاني) الماضي 2012، عن المجلس الوطني الأميركي للبحوث، تقرير حديث بعنوان «استراتيجية بحثية لجوانب البيئة والصحة والسلامة المتعلقة بالمواد النانوية متناهية الصغر»، وجاء فيه أنه من دون وجود خطة بحثية منسقة للمساعدة على توجيه الجهود لإدارة وتجنب المخاطر المحتملة للمواد النانوية، فسوف يصبح مستقبل أمن واستدامة تكنولوجيا النانو غير مؤكد. وتعرض التقرير لأهمية وضع استراتيجية لتطوير البحوث العلمية والبنية التحتية اللازمة لمعالجة المخاطر الصحية والبيئية المحتملة للمواد النانوية، والتي يتطلب تنفيذها بصورة فعالة وجود إدارة مناسبة وميزانية بحثية مباشرة.